أحمد البدوي بن محمدا .. حياته ودور أنظامه
وكالة كيفة للأنباء

أحمد البدوي بن محمدا حياته ودور أنظامه في نشر السيرة وغرس المحبة النبوية وإشعاعها في المشرق العربي (هذه المقالة تلخيص لدراسة شاملة بهذا العنوان ستصدر في كتاب بإذن الله وعونه.)

توطئة عامة:

للموريتانيين نصيب محمود من حماية ونشر علوم الشريعة الإسلامية المباركة وما يتفرع من معارفها الشرعية واللغوية والتاريخية.

ورغم قساوة الطبيعة التي عاشوا فيها وشحة مواردها، وخضوعهم لظروف البداوة وحركتها الدائبة، فإنهم قد سادوا فيها وانفردوا بالعلم والتعليم في ربوعها؛ خلافا لما عُهد في التاريخ العربي خاصة من ارتباط البداوة بالجهالة والجفاء.

الموريتانيون/الشناقطة عاشوا بداوة عالمة، تعاطوا فيها شتى فنون العلوم الشرعية العربية والمعارف الإنسانية. بل كان لهم إسهام كبير في نشر تلك العلوم وإثرائها بالتأليف والتحقيق والتعليق.

ونظرا لوجودهم في طرف قصي من الخريطة العربية وتنقلهم في صحراوات مقفرة، لم يكن باستطاعة غيرهم، وخاصة من سكان الحواضر الكبرى ورواد مراكز التعليم فيها، الاستفادة من عطائهم والأخذ من مشكاتهم مباشرة بالانتقال إلى ربوعهم... زد على ذاك أنهم كانوا في الإعلام العربي المعاصر نسيا منسيا ومعلما مخفيا.

ويعود ذلك لسببين رئيسيين: أولهما ما ذكرنا من بُعد موطنهم واختيارهم لحياة الخفة والتنقل، ونبذهم إقامة الحواضر وتمصير الأمصار فيه.

وثاني الأسباب هو أن تعلمهم وإنتاجهم المعرفي عموما كان تعَبديًّا هدفه الأساسي إقامة الدين والقُنوت لله، وما يلحق بهما من المكارم والمحامد الأخلاقية والأدبية... في أنفسهم ومحيطهم خاصة.

وحتى في الحالات التي كان علماؤهم يتصلون بعلية القوم في حواضر المغرب والمشرق، كانت هذه الحالة التعبدية تحكمهم؛ لأن ذلك الاتصال ما كان ـ في الغالب الأعم ـ إلا في مناسك ومشاعر الحج أو في الطريق إليها. ومن العلماء الأجلاء والأدباء النجباء الذين أثروا في الساحة الشنقيطية ونواحيها وتسرب إشعاع إنتاجهم إلى الأصقاع النائية والأقطار البعيدة، وهم مغمورون لا يُعرف عن ذواتهم وحياتهم شيء، العلامة أحمد البدوي بن محمدا المجلسي الموريتاني. لقد تحقق لنا مؤخرا اكتشاف شروح مهمة لبعض أنظام أحمد البدوي؛ منها شرح مستفيض لأحد أعلام المشرق وعلمائه المشهورين هو محمود شكري الألوسي البغدادي العراقي (1857-1924م) على نظم عمود النسب. صدره بالإشادة بهذا النظم والاستدلال به على علم وفضل علماء البلاد الموريتانية. واكتشفنا كذلك شرحا آخر لنفس النظم، لأحد علماء بلادنا من أقصى مشرقها، هو سيدي عبد الله بن محمد الصغير بن انبوجه التشيتي (1832-1883م). وهو شرح ضخم أجاد فيه وأفاد، وبسط الأقوال، وجمع الآراء والأنقال. ولكن مع ذلك لم يُذكر هذا الشرح من قَبل، ولم تعرف حقيقته بسبب نهب الفرنسيين له ضمن كثير من مخطوطات آل انبوجه وغيرهم.

الدرة الشنقيطية التي بهرت علماء المشرق!

إنها إذن منظومة عمود النسب للعلامة أحمد البدوي بن محمدا المجلسي الشنقيطي. منظومة تنصب أصلا على التعريف بنسب النبي صلى الله عليه وسلم ونسب الأنصار، كما عبر عن ذلك مبدعها رحمه الله بقوله في أولها: عِلـمُ عَمُـودِ نَسَــبِ الْمُخْتَارِ** ثُــمَّ عَمُــــودِ نَسَــبِ الأَنصَارِ وقوله في ختامها: هُنَا انتَهَى مُهِمُّ سِلْكَيِ النَّسَبْ ** وَالْحَمْــدُ لِلَّهِ عَلَى نَيْلِ الأَرَبْ بهر هذا الرجز البديع العلامة محمود شكري الألوسي وتلامذته وأسرهم بجمال نظمه، وحسن سبكه، وجزالة لغته، وبلاغة معانيه، وثراء إحالاته وإشاراته، وصحة روايته، ودقة تصويره لحياة العرب وأيامها وأعلامها... يقول الألوسي في مقدمة شرحه: "... منظومة بديعة، وأرجوزة كأنها عقود جمان تتحلى بفرائدها وفوائدها الأفواه والآذان، لم يُسبق ناظمها إلى مثلها في علمها وعملها، سماها عمود النسب (...) فهي درة لم تثقب وغرة من غرر الأدب".

ويعلق عراقي آخر هو العلامة بهجة الأثري (1904- 1996م) المعروف في المشرق براهب اللغة العربية، على ما سمعه وشاهده من عناية العلماء الشناقطة بهذه المنظومة وحفظهم لها بقوله بعدما درسها: "وحق لهم ذلك؛ كيف لا وقد احتوت على فوائد وفرائد ونوادر وشوارد من أخبار العرب الكرام في الجاهلية والإسلام، وتفصيل الكلام في أنسابهم وأطوارهم وذكر مشاهيرهم وجهابذتهم من كرام وأجواد وفرسان وكماة وعلماء إلى غير ذلك مما يعز وجوده في كتاب". ولكن أول الملاحظات التي صدمتنا عند قراءة نص الأثري هي جهله اسم مؤلف هذا الكتاب الذي بهره سبكه ومعناه، واعتبره دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا على عناية الشناقطة بتاريخ العرب وعلوم العربية وآدابها. مثله في ذلك مثل شيخه العلامة الألوسي قبله الذي قال في مقدمة شرحه: "كيف لا وناظمها فاضل عصره وأستاذ دهره الشيخ أحمد الشنقيطي المالكي المغربي"! وبينما كان تعريف الألوسي للناظم ناقصا وغير دقيق، فإن بهجة الأثري وجد بحكم تأخره الزمني فرصة للتعريف بالناظم أو باسمه الكامل على الأقل، من خلال كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"، رغم أن مؤلفه اعتذر بجهله لشخصية الناظم. والحقيقة أنه فيما عدا اسم المؤلف ونسبته ـ لا نسبه ـ في الوسيط لم تُنشر ترجمة ولا تعريف دقيق للعلامة أحمد البدوي، يمكن للمشارقة أو غيرهم الرجوع إليه للتعريف بصاحب أنظام السيرة البديعة الذائعة. يقول سيداحمد بن الأمين (1864-1913م) رحمه الله في الوسيط ـ وهو أول مرجع شنقيطي مطبوع عن هذه البلاد ـ: "ولا أدري في أي تاريخ كان". ويقول أحمد بن المختار الجكني الشنقيطي، المدرس بالحرم المكي (1927-2013م) مقدما أول طبعة لعمود النسب بشرح حماد بن الأمين المجلسي، بعدما نوه ببراعة الناظم والشارح وإجادتهما: "أبدي عميق أسفي على أني لست على بينة من أمر هذين الرجلين العظيمين الطائر صيتهما بتآليفهما، لأنهما ليسا من منطقتي". وهذا على كل حال دال على تقصير استمر من قِبل ذوي المؤلف وغيرهم في ترجمته، والاكتفاء عنها بشهرة أنظامه. وربما كان من دواعي ذلك ومسبباته زهد الناظم نفسه في التعريف بذاته وتمسكه الشديد بالمبدإ القائل: "ينتفع به الناظر للقول النابذ للقائل"، والذي صدر به تلميذه وابن أخيه شرحه لنظم الغزوات حيث لم يترجم له ولا لنفسه. هذه الحقائق كلها تجعل من أول الضرورات العلمية التعريف الشخصي بهذا العَلَم الكبير، ونشر كل ما يمكن انتشاله من آثاره العلمية وأخبار حياته الصحيحة من أوثق مراجعها الأصلية وأصح أنبائها المروية التي استخلصنا منها هذا التعريف الموجز عن حياته، ومكانته العلمية، ومؤلفاته وتأثيرها في بلاده وخارجها...

التعريف بأحمد البدوي

هو العلامة أبو الغوث أحمد البدوي بن محمدا ـ بألف آخره ـ بن أبي أحمد بن أحمد بن محنض بن أبيال بن إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن بادلِّ بن أكْ (اكتوشني) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم الأموي. وإبراهيم هذا ينتهي نسبه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، كما تذكر الروايات الشفهية والمراجع التاريخية المكتوبة في هذه البلاد.

ولد أحمد البدوي سنة 1158هـ/1745م خامس إخوة كلهم علماء؛ هم أبناء العلامة محمدا بن أبي أحمد المجلسي، الذي يعد من كبار العلماء المدرسين في بداية القرن الهجري الـ12 الهجري، وأختهم فاطمة (انديه) وهي أم الشاعر المفلق حبيب الله بن ماناه الجكني الشهير بالإمام (1767-1805م) الذي رثى نفسه وصحبه بقصيدته المشهورة: واهاً لمرضى رهان في "سجلماس" ** نائي المؤانس والعُـواد والآسي واها لها من حشاشات يساوقـها ** تنوا جسـوم إلى تصعيـد أنفاس ومن عظام وأشـــلاء ممــزقـــة ** كأنما لبثــت حِــينا بأرمـــاس ...الخ

أما أم أحمد البدوي فهي مريم بنت حبيب بن أبانحمد الجكنية الرمظانية، أخت العلامة سيدالمين بن حبيب بن أبانحمد (1670-1767م). نشأ أحمد البدوي وترعرع في بيت والده، وفي محظرته تلقى جل علومه؛ إما عنه مباشرة أو عن أنجاله (إخوة البدوي). ولكن لم تقتصر دراسته على محظرة والده وأشقائه، بل طلب العلم في محاظر أخرى. وكانت محظرة والده يدرس فيها صحيح البخاري وعلوم اللغة والفقه والسيرة النبوية. وقد صحب بصورة خاصة أخاه المختار (مختاري/ت1198هـ) ودرسا معا لفترة في محظرة أحمد بن المختار انـﭽبنان من آل أتشغ حيبڸ (وهم أخوالهما؛ لأن والدة محمدا بن أبي أحمد هي مريم بنت أحمد ﭽَـهـﭻَ أخت أتشغ حيبڸ، وهي من العالمات المدرسات). بدأ اهتمام أحمد البدوي بعلوم السيرة وعنايته بالتأليف فيها في أول شبابه، فكانت له أوان طفولته أنظام قصيرة ومقاطع شعرية في بعض مسائلها، كقوله في أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم:

أولُ الناس بالنــــبيِّ اقتــــداءً ** أمُّ أبنائـــــه الكــــرامِ الجُدودِ فعليٌّ ثــــم ابنُ حارثــة الكَلْـــ ** ــبي زيـــدٌ مـولى النبيِّ المجيـد ثـــم إذ آمن العتيـــقُ دعـا النا ** سَ فجاءت عصابَـــة كالفريدِ وهْيَ عثمانُ والزبـيرُ وسعــدٌ ** وابنُ عَــوفٍ وطلحةُ بنُ عُبَيدِ (الله)

كما نظم بعثي الرجيع وبئر معونة ثم جعلهما بعد ذلك في محلهما من نظم الغزوات حين نظمه. ومع شحة المصادر القاطعة بشأن دراسة البدوي وتحديد شيوخه وتلامذته، فمن المؤكد أن جل أخذه وعطائه إنما كانا في أسرته ودائرته المحلية. وممن كانت لأحمد البدوي صلة العلم والقربى بهم العلامة عبد الله بن لمرابط سيدي محمود الحاجي (ح 1761-1835م)، الذي كان ممن أخذ عن محمدا (والد البدوي). أما قرابتهما فلأن أم عبد الله بن سيدي محمود هي اخديجه بنت العلامة سيدالمين بن حبيب الله الذي هو خال البدوي وإخوته. ولهذا يقول عبد الله بن لمرابط سيدي محمود في رسالة شوق إلى أهل محمدا بعد مغادرتهم منازلَ أخوالهم في ارﮔيبه وأﮔـان:

تحيــة ذي قربى يسائلكمْ غـــــدا ** برحماه يـــوم الحشر آلَ محمدا ... الخ

أما حياة أحمد البدوي الاجتماعية فقد عاش في بيت عزة مستقر، ووسط اجتماعي يطبعه الانسجام مع تنوعه النسبي (بين أربع قبائل كبيرة)، حيث تزوج مريم بنت المختار الملقب "امون" اليعقوبية فكانت أم بنيه الخمسة. ومن الناحية الاقتصادية تربى أحمد البدوي في عائلة لا تقبل الثراء لشدة الزهد والتواضع والإيثار؛ ولكنها ميسورة الحال. وكان محورَ حياته في الإقامة والسفر، التعليم والتأليفُ وصلةُ العلماء والانشغالُ بالعلم والعبادة، في تواضع لم يثلمه ما وصلت إليه مكانته الاجتماعية وعلمه ومؤلفاته التي تلقفها الناس وأحاطوها بالقبول والإعجاب شرقا وغربا. وقد قال عنه تلميذه وابن أخيه شارح مؤلفاته العلامة حماد بن الأمين (1757-1842م) في ذلك: "سجيته التواضع واحتقار نفسه...". ولم نجد ما يدل على أن أحمد البدوي جلس للتدريس في محظرة جامعة. إلا أنه مع اشتغاله بالتأليف واختصاصه به من بين إخوته العلماء، ما كان لينقطع عن دوره التعليمي ولاسيما في فني السيرة وعلوم اللغة العربية والأدب. ومع هذا التواضع المفرط كان أحمد البدوي موصوفا بالفتوة وكمال الخلق والشجاعة وكرم النفس. كما كان جوادا كريما حمالا للكَل. وكان منذ شبابه عابدا تقيا، شديدا في الله، لا يحب العبث والفراغ، يحض أهله وذويه على الاشتغال بالعلم والذكر، والإعراض عن اللغو والفراغ. وكان مع انشغاله بالعلم والفكر والعبادة، اجتماعيا محبا لعائلته، وفيا لأصدقائه. وقد ترك تلك المودة وصلة الرحم شيمة متوارثة في عقبه. وكان أيضا ميالا للتفاؤل وحب الطبيعة وجمالها وتدبر صنع الله وحكمته في الكون الواسع... وهذه خلال مروية عنه، ومقروءة في ما أنقذ من شعره، ومنه قوله:

انظرْ بعينيكَ في رَوض الرُّبى زهرا ** يزهو لعينيكَ صُنع الخالقِ الباري ألقــــتْ عليه بَعاعًا كلُّ ساريةٍ ** دلويةٍ من ثِقالِ السُّحبِ مدرارِ مُـــدنَّــر النَّـــوْر قانيه مُدَرهَمه ** يَعلُولــه بهج الأنــوار معطارِ ونَمَّقتــه بمربوع الحمى لعبــت ** بنَوْر طلعـته الصبيانُ عـرعار وطرَّزتـــه بميَّاس الغُصون على ** أعقاب أحقافها كالسُّندس الواري

وكما أن النسيان وغياب تدوين السير قد غيبا تفاصيل دراسة أحمد البدوي وأسماء بعض أشياخه، فإنهما قد ضيعا بشكل أعم أسماء تلامذته والآخذين عنه، ولم نجد تصريحا مكتوبا عنهم إلا ما كان من ابن أخيه العلامة حماد بن الأمين الذي صرح بأخذه عنه ومشيخته له في مواضع من كتاباته. توفي رحمه الله سنة 1208هـ/ 1794م. وهناك رواية أخرى بأن وفاته كانت 1220هـ اعتمادا على نسخة مخطوطة قديمة من نظم عمود النسب توجد في مكتبة الحرم بمكة المكرمة. لكن الصحيح هو القول الأول، بناء على ما تواتر عن العلماء والشيوخ من أنه عاش خمسين سنة فحسب. وهو مطابق لما ذكره الطالب محمد البرتلي الولاتي (1728-1804م) في "فتح الشكور" صريحا في ترجمته. بل روي عن البعض أن عمره كان أقل من ذلك. ويشهد لهذا حدث وفاته المفاجئة رحمه الله وهو في سفر خارج دياره؛ إذ لا يكون تجشم عناء السفر في المهمات الخارجية غالبا إلا في حال القوة والصحة. توفي رحمه الله ودفن ببلدة "الكرماية" (شمال مدينة القوارب) فأصبح مدفنه مقبرة كبيرة مزورة. وهكذا كان عمره قصيرا كالورد: جميلا زكيا نديا. وضجت الدنيا لوفاته وصدم لها القاصي والداني، واعتبرت مصيبة للمسلمين عامة، كما أشار إلى ذلك العلامة حماد بن الأمين في ثنايا شرحه نظم الغزوات حيث قال: "ولم أحضر مصيبة المسلمين به". ترك البدوي خمسة أبناء (الغوث والمختار وحبيب وعبادة وعبد الفتاح) كانوا على نهجه في العلم والعمل به. واشتهرت من النساء حفيداته ـ وفيهن استمر عقبه ـ بالعلم والفضل، وكان منهن إلى وقت قريب مدرسات لعلوم السيرة والأدب.

مكانته العلمية

غالبا ما يؤثر "التخصص" في الحكم العام على الأشخاص؛ فيشتهرون بمجال علمي دون مجالات أخرى قد يكونون أعلم بها وأرسخ قَدما فيها من ذلك المجال. وقد اشتهر أحمد البدوي بعلم الأنساب والسيرة النبوية عموما، وطغت على سواها من فنون العلم الأخرى التي برع فيها؛ خاصة النحو والصرف والفقه والقرآن والحديث والأدب... لقد تحدث أحمد البدوي في مقدمة نظم عمود النسب عن نفسه، وهي حالة منه نادرة، ليؤكد على أمر عُرفت به مصنفاته، ألا وهو صحة الرأي ودقة النقل. ولم يفته مع ذلك أن يتوقع من بعض الناس طعنا وانتقادا، فدافع عن نفسه دفاعا قويا مقنعا لأولي العلم المنصفين عامة، ووجيها عند العارفين بهذا الفن خاصة، وهجوما وغارة شعواء على ذوي الغِل والهوى وضيق الصدر، والجاهلين المقصرين في البحث والتدقيق... حيث قال في مقدمة عمود النسب:

ومَن رَأَى خِـلاَفَ مَا ذَكَرتُهُ ** فلْيَتَّئـــِدْ لَعَـــلَّ ما أَبْصرْتُــــهُ فِي غَيرِ مَا طالَعَـهُ إذِ الطُّرُقْ ** ــ لاسِيَّما في الفَنِّ ذاــ قَد تفْتَرِقْ وَمَن يَكُن مُسْتَوْعِبًا ـ مِّثلِي ـ ذَكَرْ ** مُشتَهِــرًامِّنها وغَيرَ ما اشْتَهَـرْ وَرُبَّـمَا أنكَـرَ ضَيِّــقُ العَطَـنْ ** والبَاعِ والبحْـثِ عَليَّ فطَعَـــنْ ولستُ إلاَّ مِن مَّشاهـيرِ الكُتُبْ ** آخُــذُ فَلْيُزَكِّـــهَا أوْ لِيَسُـــــــبْ!

ومن المعلوم مع ذلك أن علم السير والأنساب فن معقد، زاخرة بحاره بالصحيح والسقيم، وطرقه متفرقة متشعبة لا يهتدي فيها إلا من أوتي علما غزيرا وفهما بصيرا. كما "لا يخفى أن السِّـير تجمع الصحيح والسقيم دون الموضوع" كما يقول الحلبي في مقدمة سيرته. ويقول العراقي في ألفية المغازي:

وليعلــم الطالب أن السِّــيرا ** تجمــع ما صحَّ وما قد أنكرا

لكن أحمد البدوي قد تخير الصحيح المشهور، واتبع ـ في الغالب الأعم ـ ما في صحيح الأحاديث والآثار، وما اعتمده الثقات المبرزون من القصص والأخبار. واجتنب إلى حد كبير الضعيف الغريب. وأعرض كلية عن مسالك روايات الوضاعين وخرافات القصاصين، وتلك من ثوابت منهجه المتميزة جدا. هذا ولا يبعد أن تكون للبدوي مصنفات أخرى، وفي فنون أخرى، ضاعت أو لم تدون أصلا (كبعض الأنظام التي تُتداول حفظا). لكن مما لا ريب فيه أنه كان عالما موسوعيا وحافظا كاملا، كما اعترف له بذلك الأجلة الأعلام من معاصريه ومن المتأخرين. يقول عنه تلميذه حماد بن الأمين في شرح نظم الغزوات عند قوله:

وشَــــدَّ ما اجْترأتُ في ذا الهدفِ ** إذ لم أكن أهلاً لصوغ النُّتَفِ

"... وهذا منه ـ رحمه الله ـ تواضع وهو عادة المؤلفين قبله، لاسيما هو سجيته التواضع حياتَه واحتقار نفسه؛ ولولا ذلك لشدت إليه الرحال من كل أرض، وهو محطها في العلم، لاسيما علم النحو والعربية والأدب، بل والكتاب والحديث والفقه". ويقول العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي (1825-1918م): "... كان بارعا في علم النحو يعتمد عليه فيه أهل عصره... وهو من أجود الناس شعرا ومن أقدرهم على الشعر. ويكفيه أن تأليفه هذا (نظم الغزوات) عكف عليه أهل هذه الناحية وتلقوه بالقبول". وفي المشرق والمغرب كان العلماء الشناقطة المبرزون يلفتون انتباه مناظريهم وتلامذتهم بكثرة الاستشهاد بأبيات ومقاطع من نظمي الغزوات وعمود النسب. فانبثّ الشوق إليهما والتعلق بهما في تلك الأصقاع، فشاع ذكرهما، وطار صيتهما على ألسنة جهابذة هناك من العلماء الأعلام، وفي مصنفات المؤلفين العظام؛ مثل: ابن التلاميد التركزي (1829-1904مـ)، وأبناء مايابى: محمد العاقب (1859-1909م) ومحمد الخضر(1873- 1935م) ومحمد حبيب الله (1878- 1944م)، وآبه بن اخطور(1907-1974م) الجكنيين، وابن عبدي بن فال الخير الحسني (1933-1876م)، وابن الأمين العلوي... وغيرهم، فقد زخرت بها مؤلفاتهم في التفسير والحديث، ومحاضراتهم في التعليم والتوجيه... يقول عنه ابن الأمين في الوسيط: "هو العالم الكبير والنسابة الشهير... وهو الذي أحيا أنساب العرب بنظم عمود النسب... ومن تأمل نظمه علم سعة اطلاعه واقتداره في ذلك الفن. ونظم أيضا غزوات النبي صلى الله عليه وسلم نظما جيدا يدل على تبحره في السيرة". ويقول عنه الطالب محمد بن أبي بكر البرتلي الولاتي (في فتح الشكور) بعد الإشادة والثناء على نظميه في المغازي وأنساب العرب: "... وهما يدلان على تبحره في السيرة والأنساب". وغير بعيد من هناك يشيد عبد الله بن سيدي محمد بن محمد الصغير بن انبوجه العلوي التشيتي بالناظم ومكانته العلمية. ويذكر في شرحه المطول لنظم عمود النسب إمامة البدوي في هذا العلم، ويصرح باجتبائه لذلك الرجز منهجا لتدريس فنه في تشيت وأﮊواد، حيث ذكر عدة مرات أنه قرأه "على شيوخ أكابر". ويقول إنه طالع عشر نسخ منه. وقد نسخه بخطه الجميل مرتين على الأقل. كما يذكر أيضا بنفس الإعجاب نظم الغزوات للناظم، وقد شرحه أيضا شرحا سماه "الجواهر السنية في شرح المغازي البدوية". أما في أقصى المشرق العربي فقد لفت نظما أحمد البدوي أنظار من طالعهما من العلماء والطلاب، وسحرا منهم الألباب، ولقيا التنويه والإعجاب، والإشادة بهذه البلاد الشنقيطية وما وصلت إليه بواديها من إنتاج علمي وإبداع فكري. يقول العلامة محمود شكري الألوسي البغدادي في مقدمة شرحه، عن منظومة عمود النسب، ومؤلفها: "...لم يُسبق ناظمها إلى مثلها في علمها وعملها (...) كيف لا وناظمها فاضل عصره وأستاذ دهره (...) فلما رأيتها وجدتها قد احتوت من علوم العرب على كنوز، ومن أخبار أخيارهم على صريح ورموز..." الخ. أما العلامة العراقي محمد بهجة الأثري فيعبر في مقال خصصه لنظم عمود النسب وشرحه، نشرته مجلة المجمع العلمي العربي الدمشقية سنة 1923م ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ عن إعجابه، بل دهشته، بإبداع الناظم. ويقول عنه: "... وفصَّل القول في ذكر أفخاذهم (يعني العرب) وبطونهم ومن اشتهر منهم وطار صيته وما كان منهم من الأعمال الجليلة إلى غير ذلك مما يقضي المتأمل منه العجب(( أفَسِحْرٌ هذا أم أنتُم لا تُبْصِرون))، ((إنَّ هذا لهوَ الفَضْلُ المُبين))، فحدث ولا حرج عن البحر وهيهات ليس الخبر كالخُبْر"!!. ويقول حسن بن محمد بن عباس المشاط المنافي المكي (1899-1979م) في شرحه لنظم الغزوات لأحمد البدوي، بعد إبداء أسفه على عدم إسعاف المراجع الشنقيطية له بمعلومات عن شخصية الناظم: "... ومنظومتنا هذه [الغزوات] هي فصل الخطاب والآية في الإعجاب، لا تدع شاذة ولا فاذة من عيون المغازي إلا أتت عليها، بأبدع أسلوب وأسلس تعبير. فهي الفريدة في بابها الممتعة لطلابها، ترفل في أثواب حسنها، مدبجة بكلام الحفاظ والمهرة من نقدة هذا الشأن". وفي علوم اللغة وفنون الأدب والشعر كان أحمد البدوي قدوة، كما تدل على ذلك بوضوح دعوة العلامة المختار بن بونا خصومه إلى التحاكم على أحمد البدوي، وارتضاؤه حَكما في مساجلاته مع العلامة لمجيدري بن حبل (1752-1790م) اليعقوبي وأنصاره، للفصل في أيهم أحسن شعرا وأفصح لسانا، كما جاء في شعره مخاطبا المامون بن الصوفي (1731-1817م) الذي كان عليه من أشد المنافحين عن لمجيدري. يقول ابن بونا:

تعالَ نُحكِّــــمْ بيننا البدوِي الذي ** له الفصل بين الناس في النظم والنثرِ ...الخ.

وكما تدل هذه الدعوة على المكانة الأدبية السامية، فإنها تدل كذلك على مدى ثقة الجميع في عدالة أحمد البدوي وأمانته العلمية، وأيضا حسن علاقاته بكل أطراف السجال، مع ما هو معروف من وشائج القربى وعلاقات المعرفة بين الجميع.

دوره في نشر علم السيرة وترسيخ محبة النبي صلى الله عليه وسلم

إن من المعلوم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات تصديقه ومقامات الإيمان به وأمارات اتباعه؛ واتباعه شرط لمحبة الله الخالق المعبود بالحق لا إله إلا هو، كما جاء في القرآن المحكم والسنة الصحيحة. وتحقق هذه المحبة منوط بمعرفة الوسائل التي تخبر عنه صلى الله عليه وسلم من علوم جنابه الشريف؛ كالشمائل والفضائل والخصائص، ودلائل نبوته... ثم علوم سيرته صلى الله عليه وسلم، التي من أهمها نسبه وحياته وغزواته وبعوثه وسراياه وصحابته... الخ. ولتلك الأهداف النبيلة والغايات الجليلة، وعلى هذا العلم، قامت وتركزت أنظام أحمد البدوي بن محمدا، وخاصة نظم الغزوات ونظم عمود النسب. فكان لهما دور مشهود وتأثير محمود في ترسيخ محبته صلى الله عليه وسلم في نفوس المؤمنين، واستدراجهم للعناية بسيرته العطرة ودراستها بين فئات المجتمع؛ رجالا ونساء، وآباء وأبناء... بل لقد أصبح هذان النظمان من النصوص التي لابد للنساء من حفظها وتلقينها للأطفال، قبل دراستها في المحاظر دراسة علمية مفصلة، مما رسخ محتواهما في النفوس، ووسع دائرة انتشارهما وتأثيرهما في عامة الناس، وليس في أوساط النخبة العلمية فقط. فكان لهذين النظمين بذلك الأثرُ الواضح في نشر علوم السيرة، سواء بإقبال الناس على تعلمهما، أو بما خُصا به من شرحِ وتعليقِ وتوشيحِ علماء هذه البلاد وغيرهم. حتى وُصف أحمد البدوي بأنه من "بث السيرة وأحيا أنساب العرب" بعدما كادت تختفي وتتفرق في ثنايا فنون التاريخ وعلوم القرآن والحديث. وشاع عند الناس قول مأثور: "من أراد تذوق محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتدبر سيرته فليحفظ أنظام البدوي". ولا غرو، فإن تبحر الناظم في هذا الفن وأصوله وفروعه وقدرته الفائقة في اللغة والشعر، أكسبا هذين المصَنَّفَين جمالا جذابا وأناقة أخَّاذة، بينما كان لصحة نقوله وصدق عاطفته جاذبية أخرى وتأثير عقلي ونفسي على المتلقين. وقبل كل ذلك فإن إخلاص الناظم في نيته وابتغاءه وجه الله بأعماله، وعمق محبته لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أقوى أسباب نجاحهما وأعظم دواعي قبولهما لدى الجميع. وقد أبرز في مقدمتي نظميه (الغزوات والأنساب) ما لعلم السيرة النبوية وحياة الصحابــة من أهمية وفضل مستمدين من موضوعهما الشريـــف، وهو ـ كما قال في نظم الأنساب ـ خير ما جرت به أقلام الكتاب واشتغلت به أذهان العلماء: عِلْمٌ به يُبْحَثُ عـن نُّورِ النَّبِي ** إذْ هُــــوَ في مَنصِبِـهِ المهَــذَّبِ وبَعْـدَ أَن كَانَ وعَـن صَحابَتِهْ ** وأهْـلِ مَكَّـــةَ وأهـلِ طابَتِـهْ والعلم ـ كما قال في نظم الغزوات ـ أفضليته مستمدة من فضل موضوعه، وعلوم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي خير ما ألف فيه المؤلفون وأفضل ما صنف فيه المصنفون: وخَيرُه ــ والعلمُ تسمو رتبتُــه ** من فَضـلِ ما دلَّ عليه ــ سيرتُه ومع أن أحمد البدوي ابتكر نظم عمود النسب خدمة للجناب النبوي وتجسيدا لمحبته، وإحياء لسنته المشرفة، وخدمة للشريعة المطهرة، فإن من العلماء من رأى له في نفس الوقت بعدا وطنيا وقوميا. وذلك مثل العلامة الحافظ محمد سالم بن عدود (1929-2009م) رحمه الله؛ حيث يقول، في شرحه المسجل بصوته لهذا النظم: إن "فيه فائدة عظيمة في حفظ أنساب العرب بهذه البلاد البعيدة عن مركز العرب (...) فنحن هنا كنا مضطرين إلى المحافظة على حياة العرب وتاريخ العرب وأمجاد العرب لأننا عرب. فلو تساهلنا في هذا أو فرطنا فيه لذهبت هويتنا وضعنا. وليس هذا عن تعصب ولكنه محافظة على البقاء".

وسَطِيته وموقفه من التصوف والتوسل

عاش أحمد البدوي بن محمدا في الفترة اللاحقة لحرب شرببه الشهيرة(1645-1674م) وهي فترة نهوض علمي في شتى المجالات، ولكنها أيضا فترة ازدهار التصوف، وانتشار مده إلى مستويات تجاوز بعضها أحيانا الضوابط الفقهية الشرعية، فامتزجت ببعض الاجتهادات الشخصية، والخرافات المحكية، والمبالغات الاجتماعية... ومع انتشار التصوف وقدوم طرقه المختلفة من الشرق والشمال إلى منطقة الـﮕبلة، ترسخت ثنائية "الشريعة والحقيقة" أو "علم الظاهر والباطن" لدى كافة الأقوام. إلا أنه من الجدير بالملاحظة والتنويه أن أحمد البدوي ـ كما هي حال والده وإخوته ـ لم تظهر لهم انتماءات صوفية "طرقية"؛ لا في التدريس ولا في التأليف. بل كان تمسكهم بالكتاب والسنة وظاهر الفقه وأصوله واضحا للعيان لا يخالطه شيء. ولكن مع هذا لا نجد ما يوحي بمعارضتهم لتلك الثنائية المسلمة، ولا عن تأثرهم ببوادر ما يمكن تسميته بتحفظ: "الدعوات السلفية" التي تبلورت في العصر الثاني للمجيدري بن حبَّلَّ، الذي تركزت سلفيته على الدعوة للأخذ بالكتاب والسنة ونبذ الفروع وعلم العقائد (الكلام) ولكنه كان مع ذلك شديد التمسك بالتصوف. وحري بنا أن نتساءل هنا كيف كان موقف أحمد البدوي من السجال الحاد بين لمجيدري بن حبل وأنصاره من جهة، والمختار بن بونا وأنصاره من جهة ثانية. وهو جدل كان يدور حول البدوي قريبا منه، لكن لم يرو عنه تدخل فيه ولا موقف مباشر منه. وقد تكون العلاقة الوثيقة والصلات القوية له بطرفي ذلك الجدل، منبع حرج يجعل الحياد خياره الطبيعي؛ خاصة بعد اجتذاب ذلك السجال للنزعات الشخصية واستنفاره للعصبيات القبلية. وهذا ما تؤيده دعوة ابن بونا الآنف ذكرها لمساجليه للتحاكم على الرجل. والذي تؤكده الروايات والآثار أن أحمد البدوي كان في الموقف الوسط المتمسك ـ من جهة ـ بالجانب الإيجابي في مواقف السلفيين عموما (لا نعني بالسلفية هنا آراء لمجيدري بن حبل، بل نقصد السلفية الرافضة أيضا لمنهج أهل الطرق الصوفية وثنائيتهم المعروفة: "الظاهر والباطن"، ولمبدأ التبرك والتوسل بالمخلوق...) وهو اعتماد الأصول الشرعية ونبذ البدع، والرافض ـ من جهة أخرى ـ المواقفَ السلبية لبعضهم؛ مثل "تبديع" أهل الطرق الصوفية، و"تشريك" المتوسل بالمخلوق مطلقا، و"تضليل" سالكي منهج الأشعرية... لقد كان ببساطة متمسكا بثنائية من نوع آخر اشتهرت عنه وعن علماء أسرته، أيدتها آثارهم ألا وهي "العلم والاستقامة"، أي معرفة الأدلة الشرعية والتمسك بمقتضاها من ظاهر الشرع ومشهور الفقه المالكي، مع حسن الظن بالناس والتماس أحسن المخارج لسلوكهم في أنفسهم، والإنصاف في مخالفتهم. ومن المفيد أن نضرب لهذه الوسطية مثالين عمليين نلمسهما في نظم عمود النسب: الأول: حين تكلم على نسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه خصه بعدة أبيات أشار فيها إلى حديث في البخاري ومسلم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر» فقال:

وَجَــاءَ فِي الْحَدِيثِ أنَّ عُمَرَا ** مُحَــــــدَّثٌ وَأنَّ ذَلِـكَ يُــــــرَى لِخَيْـــرِ أُمَّـــــةٍ وَكُــلُّ الْخُلَــفَا ** مُكَاشَفٌ لَّهُ وصَحْبُ الْمُصْطَفَى لاَ يَتَشَـــوَّفُــــــونَ لِلكَرَامَــهْ ** لِلكَشْـفِ بَل لِّـنَيْلِ الاِسْتِقَامَهْ وَقَلَّ مَن بِالْكَشْفِ مِنْهُـمُ اشْتَهَرْ** وَبَعْدَهُـمْ عَلَى الْخَلاَئِقِ ظَهَرْ!!

فكما أن مذهب أحمد البدوي قائم على التعظيم المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يرى تبعا لذلك خصوصية لأصحابه عن سائر الناس. وقد خص منهم هنا الخلفاء الأربعة، فقال إنهم مكاشف لهم؛ أي محدثون من الملائكة أو يُجري الله الصوابَ على ألسنتهم. ورتب على ذلك أمرا في غاية الأهمية وهو أن الصحابة، بمن فيهم الخلفاء الأربعة ـ مع ذلك ـ لا يبحثون عن "الكشف" ولا يرونه دليلا على الكرامة و"الوَلاية". ولكن الناظم رحمه الله لا يقبل هذه التزكية لغير الصحابة. بل يستنكر بسخرية نقدية لاذعة كيف أن الصحابة، وهم من هم، قل من اشتهر منهم بالكشف وإن وقع له، بينما أصبح الناس بعدهم يدعون معرفة الغيب!. وقد عبر بلفظ "الخلائق" للدلالة على "كل من هب ودب" كما يقال، إمعانا في الاستنكار!. وليس هذا من باب تأويل أقوال الناظم وتوجيهها، بل نجد تأكيده لدى تلميذه وشارحه حماد بن الأمين رحمه الله، حيث يقول في شرح هذه الأبيات إن الصحابة رضوان الله عليهم لا يرون الكشف دليلا على "الوَلاية" وإنما يستدلون عليها بظهور الاستقامة، و"قل من الصحابة من اشتهر بالكشف، لكن لما ذهبوا ظهر على الأولياء، حتى كان في هذا الزمان أشرف من العلم المعمول به والصلاح والاستقامة. والخلق مشتغل بالغيب، واعمراه!". وزبدة رأيه في هذا الأمر أن الوَلي الحقيقي موجود، ولكن علامة كرامته ـ إن كان لا بد من البحث عنه ـ الاستقامة على الأمر الشرعي، لا إظهار الكشف والحديث عن الغيب... أما المثال الثاني المقابل فنجده في تنويه أحمد البدوي ببعض "الأولياء" أو "الأقطاب" من ذوي العلم والصلاح، مثل ثنائه على سيدي أحمد الحبيب اللمطي (1679-1744م) المعروف بقطب سجلماسه، وهو عالم وصالح مشهور بالكثير من الكرامات والمكاشفات! حيث قال (في سياق كلامه على عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة): مِن نَّسْلِهِ الرَّائِقِ جِدًّا سَيِّدِي ** أَحْمَدُ قُطْبُ سِجْلِمَاسَ الْمُهْتَدِي وكذلك يثني في نفس النظم على مؤسس الطريقة الصوفية القادرية عبد القادر الجيلاني (470-561هـ) حين يذكره عند الكلام على نسب عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، ويصفه بالعالم الرباني فيقول: والْمَحْضُ مِنْهُ الجَوْنُ وَالأَدَارِسَهْ ** عَنْ أَرْضِهِمْ أَجْـلَتْهُمُ الْعَبَابِسَهْ وَالْجَوْنُ مُوسَى انتَسَبَ الرَّبَانِي ** إِلَيْــهِ عَبْـــدُ الْقَادِرِ الْجِـيْلاَنِي ومثل هذه الوسطية بين محبة أهل العلم والفضل والصلاح والثناء عليهم وذكر كراماتهم، والإنكار على الجهلة من أهل الضلالة والبدع ممن يتظاهرون بمعرفة الغيب وينسبون لأنفسهم ضرا أو نفعا، لا تخلو أنظام البدوي من الدلالة عليها، وإن كان ذلك في الغالب بالتلميح المهذب والإشارة اللطيفة. ولعل خير دليل قاطع وبرهان ساطع على سلامة مواقفه السنية، وعلو مرتبته العلمية، كما عكستها مصنفاته، هو تلقيها بالقبول من كافة علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف مذاهبهم وتباعد مشاربهم. ولدينا من ذلك مثال حي يتمثل في الشرحين الكبيرين على نظمه (عمود النسب) المذكورين في هذه المقالة. فلقد شاء الله أن يكون أحدهما لعالمٍ صوفي من مغرب الوطن العربي؛ هو العلامة ابن انبوجه التجاني الشنقيطي، مؤلف كتاب: "نزهة الأذهان في ضبط ورد الشيخ التجاني". والآخر لعالم سلفي من أقصى مشرق ذلك الوطن؛ هو العلامة محمود شكري الألوسي العراقي، صاحب المؤلفات العديدة في الرد على أهل الطرق والتصوف، مؤلف كتاب "غاية الأماني في الرد على النبهاني" و"فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد عبد الوهاب"!. فقد تلقف كل واحد منهما، في موطنه وزمنه، نظم البدوي ونال الغاية من إعجابه وتزكيته، وبذل الوسع في شرحه ونشره بكيفيته.

أنظام أحمد البدوي وشروحها

لأحمد البدوي ثلاثة أنظام في السيرة النبوية وما يتعلق بها من أنساب العرب وتاريخها وفتوح الإسلام العظيمة. وقد اشتهر منها الأولان المذكوران فقط، ونالا كثيرا من الشروح والتوشيحات والطرر، من الموريتانيين وغيرهم. أما النظم الثالث فهو نظم الفتوحات (ويعرف أيضا بنظم خاتمة الأنساب) بدأه بحادث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُوُفِّيَ النَّـبِيُّ بَيْـــــنَ حَاقِـــنَـــــهْ ** بِنْتِ أبِي بَكْـــرٍ وَبَيْنَ ذَاقِنَـهْ ثم بيعة أبي بكر: وَبَايَعَتْهُ النَّاسُ غَـيْــــرَ سَعْـــدِ ** وَارْتَدَّ مَن كَانَ قَرِيـبَ الْعَهْـدِ فَسَاسَهُــمْ وَفَتَـــحَ الْيَمَامَــــــهْ ** وَقَتَــــــلَ الْوَغْــــدَ أَبَا ثـُمَامَــــهْ وتطرق فيه لقتال أهل الردة في عهد أبي بكر، ووقائع الفتوح الكبرى في خلافته وفي خلافة عمر رضي الله عنهما. وأشار بالاختصار إلى خلافة عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما وما جرى فيهما من الأمور الخطيرة... ثم إلى أول الخلافة الأموية باختصار. ويبدو أن هذا النظم لم يكتمل أو ضاع آخره. ولا ريب أن نظم عمود النسب، وهو موسوعة في السير والأنساب والتاريخ والأدب، قد حظي بعناية وشهرة لم يصلها غيره. وذلك لجزالة وجمال نظمه الشعري وصحة وثراء مضمونه العلمي. ومن بين الشروح الكثيرة التي وضعها عليه الموريتانيون خصوصا، شرح العلامة ابن انبوجه (خزانة الأرب في معرفة أنساب العرب) الذي لم يكن ـ مع ذلك ـ معروفا ولا مذكورا.

موسوعة ابن انبوجه على عمود النسب

"خزانة الأرب في معرفة أنساب العرب" لسيدي عبد الله بن سيدي محمد بن محمد الصغير بن انبوجه العلوي التشيتي. هذا الشرح، كما إلى ذلك أشرنا، هو أوسع الشروح التي تناولت نظم عمود النسب لأحمد البدوي. بل يبدو لي من خلال ما اطلعت عليه منه أنه أضخم كتب السيرة والأنساب، بالإطلاق! وقد طالعتُ من هذا الشرح الجليل في السنة الماضية (2013م) الجزءَ الثالث والجزء الثامن. وهما موجودان بالمكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، وتناولتهما في دراسة هي أصل هذه المقالة وغيرها. (وقد تمكن الباحث المحقق الدكتور سيداحمد ولد الأمير من العثور على أجزاء أخرى من هذا المخطوط المهم، وكتب عن ذلك مؤخرا كتابة مفيدة، وكذلك فعل الأستاذ المعلوم بن لمرابط). غير أن أكثر هذا الشرح (الموسوعة) لا يزال مختفيا، وما وجد منه مبعث ضائع بين مخطوطات أخرى في فنون شتى. وربما كان سبب عدم تداول هذا الشرح الكبير، بل وعدم ذكره في المراجع المعدودة، تهريب أصله إلى فرنسا، وضياع بعض أجزائه، لاسيما الجزء الأول الذي قد يتضمن التعريف بالناظم وبالشارح نفسه أيضا. وقد كان أول من أطلعني على وجود هذا الشرح العلامة الدكتور أحمدُ (جمال) بن الحسن ـ رحمه الله ـ سنة 2000م. وذكر لي أنه يوجد بالمكتبة الوطنية الفرنسية بباريس ضمن مجموعة المكتبة العمرية (نسبة إلى الحاج عمر بن سعيد الفوتي تال (1796-1863م)، ولكنه مضاف في فهرس تلك المكتبة إلى والد المؤلف سيدي محمد بن محمد الصغير. وقد تأكد من حقيقته بحكم معرفته الكاملة بنظم البدوي. وكان رأس الخيط الموصل إلى كل ذلك عثور المرحوم جمال على كتاب "ضالة الأديب" لنفس المؤلف في باماكو بجمهورية مالي. وكان مخطوطا موريتانيا نادرا، أو كما قال هو عنه: "كنزا دفينا من كنوز التراث الشنقيطي". والواقع أن لهذا الشرح أهمية كبيرة، ليس من الناحية العلمية والأدبية العظيمة فحسب، ولكن لأنه يذكر بعض مؤلفات سيدي عبد الله بن انبوجه التي لم تذكرها المصادر مطلقا، بما فيها ضالة الأديب. كما يحفل بمكنونات ثمينة وطرائف مفيدة عن تاريخ هذه البلاد وحياة ومؤلفات بعض علمائها وأعلامها، مما فات كثير منه المصادر الشحيحة المتوفرة. ولكن ما يسمح به القائمون على المكتبة الوطنية الفرنسية حتى الآن هو نشر صور مسحية من مخطوطات مكتبة آل انبوجه باسم "المكتبة العمرية" بسيـﮔو أو "حصيلة الكولونيل أرشينار من المخطوطات"، بالإضافة إلى فهرس عام لا يستفاد منه الغرض الحقيقي إلا بضربة حظ!. أما باقي المعلومات المهمة، عن مصدر هذا المخطوط وبقيته، وكيف انتقل من الصحراء الشنقيطية إلى باريس بدون "جواز" ولا تأشيرة... فيحتفظ به الفرنسيون لأنفسهم بعيدا عن الأعين!. ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن بصمات الإدارة الكولونيالية الفرنسية، التي لا تكنُّ الكثير من الاحترام والفهم لهذا التراث العربي، واضحة في عملية التصنيف نفسها من الداخل. حيث تعاني كل من النبذتين اللتين عثرت عليهما ـ على الأقل ـ بعض النقص والتقهقر والاضطراب في أوراقهما. وتختلط بهما أوراق من مخطوطات أخرى، دون أن يؤثر ذلك على عملية ترقيم وتصنيف النبذة كما لو كانت كتابا واحدا كاملا ومرتبا. بل إن المصنفين في المكتبة الفرنسية لم يلقوا بالا لما دُوِّن بوضوح على غلافي الجزأين: الثالث والثامن، على الأقل، من اسم الكتاب الصحيح ونسبته لمؤلفه الحقيقي عبد الله بن محمد بن محمد الصغير بن انبوجه؛ فقد سموه "خزانة الأدب" ونسبوه في قسم المؤلفين ـ كما فعلوا في الفهرس العام ـ إلى والده محمد!. وعلى العموم يبدو أن المؤلف يكنُّ من الإعجاب الكثير لأحمد البدوي بن محمدا وعلمه، ويحتفل به وبنظمه عمود النسب أي احتفال، سواء من خلال كثرة النسخ التي جمعها من هذا النظم، أو من خلال استحساناته لأقواله وترجيحاته، وانتصاره بالأدلة لرأيه عند تعدد الروايات. وتجدر الملاحظة هنا إلى أن ما أشار إليه أحد الأساتذة الكتاب المقتدرين في مقال منشور مؤخرا، من ذكر ابن انبوجه "لأوهام" أوردها الناظم كان خطأ بسبب التسرع والاجتزاء في قراءة كلام له من مبحث مستقل في أصول الأمم. فقد أورد ابن انبوجه في ذلك المبحث كلاما نسبه لكتاب " الجمان في مختصر أخبار الزمان" للعلامة محمد الشطيبي زعم فيه أن سام بن نوح امتد به العمر ثلاثة آلاف سنة حتى طلب الموت بعد زمن إبراهيم عليه السلام. فعلق في دفعه لهذا الزعم بأن "ذلك أحد المواضع التي سار له الوهم فيها في كتابه ذلك (الجمان) والتي تتبعها فأحصاها..." وقد ذكر منها البعض في مواقع أخرى من الكتاب. وقد حسب الكاتب أنه يعني بصاحب الكتاب (الشطيبي) صاحب النظم (البدوي) الذي لم يتطرق أصلا لهذا الموضوع في نظمه!. يتضمن هذا الشرح الموسوعة كما أسلفنا الكثير من المباحث التي كل واحد منها يمكن أن يكون تأليفا مستقلا. ولا غرو فهو قد حشد من المصادر والمراجع ما يحير الأذهان توفره واجتماعه في ذلك الزمن في هذه البلاد. حتى إنه عقد بابا خاصا لذكر هذه الكتب وأسماء مؤلفيها ورتبها فيه وذكر عددها بدقة حيث بلغت "ثلاثمائة وخمسين (350) كتابا في أربعمائة وسبعين (470) جزءا"! في شتى الفنون. ونبه إلى ما دعاه لذلك فقال: "أتينا بعد هذه الكتب لنسلم في النقل من الدرك والاعتراضات". "وقد قدمنا أن نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصدق في العلم وشكره وأن السكوت على ذلك من الكذب في العلم وكفره". ومن بين هذه الكتب الكثير من المؤلفات الموريتانية، منها ما هو مفقود ومنها ما لم يذكر أصلا. ومنها خاصة شرح حماد بن الأمين بن محمدا بن أبي أحمد المجلسي ـ الذي ينسبه غلطا إلى غير قبيلته ـ لنظم عمود النسب نفسه. مما جعلنا نتأكد أن هذا المسرد هو جزء من خزانة الأرب حيث قال: "وأما كتب الأدب فهي عين المسألة في هذا الكتاب وهي شرح العلامة حماد بن أبي أحمد اليعقوبي على هذا النظم". ويبدو أن ابن انبوجه قد ألف هو أيضا نظما في أنساب العرب، أو بطون قريش خاصة، على شاكلة نظم عمود النسب وضع عليه شرحا مزجيا يميل إلى الاختصار؛ وهو منهج مخالف لمنهجه في شرح نظم البدوي. وفيما وجدت منه رأيت التصريح بأنه من نسجه، مثل قوله: "أما عقب عبد الله بن عباس حبر الأمة فأشرت إليه بقولي"... الخ. وأرجح أن هذا الكتاب هو جزء من موسوعة خزانة الأرب، فهو بنفس الخط والتنسيق والحجم، إلا أنني لم أجد بدايته ولا ختاما صريحا له؛ حيث قال في آخر ما وجدت منه: "... انظر الجمهرة وحواشي أنساب البدوي رحمه الله تعالى... وبهم ينتهي ذكر بطون قريش وولد النضر بن كنانة. تقبل الله منا ما اشتغلنا به آمين". وعلى كل حال كان ابن انبوجه في نظمه هذا شديد التأثر بنظم أحمد البدوي لعمود النسب، مسترشدا به، مقتديا بأسلوبه وعباراته أحيانا، كما يتضح من النموذج التالي؛ يقول ابن انبوجه: ومن بطونهم بنو عدي * أي ابن كعب فئة الرضي أبي الفتوح نور الاسلام المبين * عمر المسمى أمير المؤمنين يقول أحمد البدوي: سراج أهل الجنة البر الأغر * ابو الفتوح نور الاسلام عمر ويقول ابن انبوجه: ومن بني سبط النبي حسين * جماعة الطف بدون مين سلسلة الذهب من أولاده * أهل صفاء الله مع وداده يقول البدوي: سلسلة الذهب من ضئضئه * وهو إذا أخذت في لؤلؤه

أنظام البدوي في المشرق العربي

بينما لم يبرح أحمد البدوي مواطنه البدوية في الـﮔبلة، فقد طارت مؤلفاته إلى أقاصي البلاد، وخاصة في المشرق. فتحدث عنها الدارسون والشارحون بدهشة وإعجاب؛ مع شكواهم من عدم معرفتهم بصاحبها، الذي ينسبونه جميعا إلى شنقيط موريتانيا، ضاربين به مثلا على عظمة علماء هذه البلاد وغزارة ودقة علمهم. إن نظم عمود النسب قد اشتهر باعتباره نصا علميا محظريا يعتمد عليه الطلاب في دراسة السيرة النبوية وأنساب العرب، حفظا ودرسا. ومن ثم انتشر في الآفاق. فقد عرفه المغربيون والمصريون والحجازيون والنجديون: أرجوزة شنقيطية بديعة، جامعة لأنساب العرب وسيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم. فكثرت نُسخه وتعددت، وظلت مع ذلك متماسكة لا تغيير ولا تحريف فيها، ولا نقصَ ولا زيادة. وقد وجدنا ـ مثلا ـ صورا لنُسخة من نص هذا النظم لدى مكتبة الجامع الأزهر، كتبت بخط مصري، على الورقة الأولى منها: "هذا كتاب عامود النسب في أنساب العرب للشيخ أحمد البدوي الشنقيطي غفر الله لنا وله..." وفي نهايته: "وبعد فيقول راجي نوال الأماني الفقير إلى الله عبد الله الزمراني: قد تم نسخ هذا الكتاب المستطاب بقلمي القاصر في 23 ربيع الثاني سنة 1312هـ". وعلى هذه النسخة ختم أزهري يقول: "وقف هذا الكتاب ورثة المغفور له سليمان باشا أباظه بالجامع الأزهر سنة 1316هـ". وهو مصنف بالمكتبة الأزهرية في القاهرة تحت الرقم 323141. كذلك وجدنا منه صورة نسخة كاملة بخط شنقيطي في مكتبة الحرم بمكة المكرمة يعود تاريخ نسخها إلى سنة 1285هـ. كما رأيت صورة نسخة أخرى منه مبتورة (إلى البيت 815) بمكتبة جامعة الملك سعود برياض نجد بخط رقعة مشرقي محلي، تعود لمنتصف القرن الرابع عشر الهجري, وقد تم تصنيفها سنة 1397هـ تحت رقم 1675. أما نظم الغزوات الذي تدل تسجيلاته المسموعة على كثرة دراسته في بلاد الحرمين والشام (الأردن وسوريا) فقد ساهم في انتشاره شرح العلامة السعودي محمد بن حسن المشاط المسمى "إنارة الدجى" والذي طبع ثلاث مرات قبل سنة 1977م، وتوالت طبعاته بعد ذلك. وهو شرح جيد مقتبس كله ـ تقريبا ـ من شرح حماد بن الأمين المجلسي الموريتاني المسمى "روض النهاة"، فجاء مقلدا له مقتفيا نسجه وعباراته واستطراداته أحيانا كثيرة.

اكتشاف شرح الألوسي العراقي

"شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي الحسب" هذا هو الاسم الذي اختاره محمود شكري الألوسي العراقي البغدادي لهذا الشرح المستفيض على نظم عمود النسب لأحمد البدوي المجلسي الشنقيطي. هو أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد أبي الثناء الألوسي، ينتمي إلى أسرة الألوسيين الشرفاء. عالم ومصلح عراقي، جده هو العالم المفسر الشهير أبو الثناء محمود الألوسي صاحب "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني". ولد في بغداد سنة 1273هـ/1856م. تربى في أسرة علمية ودرس على أبيه ثم عمه وغيرهما. ونبغ في شتى العلوم. وقد نشأ صوفيا على سُنة والده وجده. لكنه ما لبث أن فسخ ذلك النهج وأخذ بالمذهب السلفي الوهابي المناهض له. توفي الألوسي في بغداد سنة 1342هـ/1923م، تاركا عددا كبيرا من المؤلفات القيمة في شتى العلوم الإسلامية والعربية، تفوق الخمسين؛ منها "بلوغ الأرب في لسان العرب" الذي فاز باختيار وجائزة لجنة الألسنية الشرقية في استوكهولم بطلب ورعاية ملك النرويج سنة 1889م. ومنها "صب العذاب على من سب الأصحاب". ومنها شرح منظومة عمود النسب التي بين أيدينا. وهذا الشرح المهم لم نستطع حتى الآن مطالعته مباشرة، وما زال من الصعب الحصول على صورة منه، نتيجة لحال الاضطراب في العراق. ولكننا حصلنا على وصف شامل له ومقتطفات واسعة منه نشرتها مجلة المجمع العلمي العربي الصادرة بدمشق في رمضان 1341هـ/ ابريل 1923م. كما ذكرته مجلة "المنار" التي كان يصدرها العلامة اللبناني محمد رشيد رضا (1865-1935م) من القاهرة في عددها الصادر في 29 ذي القعدة 1342هـ/ 2/7/1924، في تأبين خاص للعلامة الألوسي، الذي كان ذا صلة برشيد رضا. ورغم أن هذا الكتاب لم يطبع حسب علمي فقد لقي اهتماما وانتشارا في العراق وخارجه. فقد عثرتُ على إحالات علمية عديدة له، يتضمن بعضها مقتطفات منه ووصفا لنسخه المخطوطة. وممن ذكره عباس العزاوي (1890-1971م) في كتابه "عشائر العراق" كمرجع؛ مُصحِّحا اسم الناظم (على ما جاء في كتاب الوسيط) حيث قال عنه: "شرح منظومة عمود النسب: الأصل للشيخ أحمد البدوي المجلسي الشنقيطي البوحمدي. شرحها الأستاذ المرحوم السيد محمود شكري الألوسي. و[هذا] الكتاب المهمّ في العشائر القديمة والتعرض لبعض المعاصرة منها لا يزال مخطوطاً، وعندي المجلد الثاني منه". كذلك جاء ذكره في قائمة مؤلفات محمود شكري الألوسي في عدد كبير من الكتب والمراجع العراقية، كمقدمة كتاب "غاية الأماني في الرد على النبهاني" المنشور سنة 2001م بالسعودية بتحقيق الداني بن منير آل زهوي، الذي يقول في عد مؤلفات الألوسي الحفيد:" شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب: والمنظومة هي للنسابة الشيخ أحمد البدوي المجلسي الشنقيطي البوحمدي. وهي في مكتبة الأوقاف العامة برقم 24353، و[توجد منها] نسخة بخط العلامة محمد بهجة الأثري في خزانة كتبه." وذكره بكر أبو زيد في كتابه طبقات النسابين المطبوع سنة 1987م، وقال إن الألوسي كان يحفظ منظومة أحمد البدوي الشنقيطي، مستدلا بها على أن "هذا القطر الموريتاني لأهله فضل عناية بالتاريخ والأنساب وأشعار العرب وأخبارها". كما ورد ذكره والتنويه به في كتاب "أعلام العراق" للعلامة محمد بهجة الأثري، المنشور سنة 1926م. وقد نشر الشيخ مرشد الحيالي (وهو عراقي معاصر) مقالا تحت عنوان "جولة مع مؤلفات الألوسي ـ رحمه الله ـ المطبوعة والمخطوطة" ذكر فيه أن شرح منظومة النسب وأخبار سلف العرب: قد أكمله المؤلف بخطه سنة 1340هـ/1917م. وأن "هذه المخطوطة توجد (في بغداد) على قسمين الأول: في مكتبة الأوقاف برقم 4353 والثاني: في مكتبة المتحف برقم 8772، ونسخة أخرى برقم 8762 في 671 صفحة". وذكر أن هذا الكتاب المخطوط في حوالي ألف صفحة "لا يزال محفوظا بحمد الله". وزاد "أنه توجد مخطوطة أخرى بعنوان (تعليقات على منظومة النسب) في مكتبة الأوقاف رقم 24353 في 23 صفحة". ولا ندري هل هذه "التعليقات"هي جزء أو نسخة أخرى من أجزاء شرح الألوسي، أم هي شرح آخر لنظم أحمد البدوي؟ (مع ملاحظة التشابه في الأرقام).

كيف وصل نظم أحمد البدوي إلى بغداد؟

لا نعلم حتى الآن بالدقة القطعية كيف وصلت منظومة أحمد البدوي الشنقيطي في أنساب وتاريخ العرب إلى بغداد. وهل كان ذلك عن طريق بلاد الحرمين بواسطة الحجاج الشناقطة؛ وهو أمر متوقع، أم كان بطريقة أخرى؟. وهناك عدة احتمالات لوصول هذا النظم إلى العلامة الألوسي البغدادي، من أقواها أن ذلك كان عن طريق العلامة محمد أمين بن عبدي بن فال الخير الحسني الشنقيطي (1933-1876م) الذي انتقل من مكة إلى الكويت، وأقام بالزبير(جنوب العراق) وفيها أسس مدرسة النجاة المشهورة في الخليج كله. وكان له دور بارز في الحياة العلمية والسياسية هناك. ومع احتمال أن يكون محمد أمين قد أخذ هذا النظم في صباه وبلده، فإنه قد درسه دراسة علمية على عالم شنقيطي في مكة المكرمة. فقد كتب في مذكراته الجزئية التي نشرت في كتاب حياة "الشيخ محمد أمين الشنقيطي" لعبد اللطيف أحمد الدليشي الخالدي (1910-1996م) ما نصه: "وكنت عازما على الرجوع إلى المغرب ولكن شيخي أحمد سالم بن الحسن الديماني الذي كان صديقا لوالدي مرض في تلك السنة فأقمت معه أمرضه"... إلى أن يقول: "فقرأت عليه جانبا حسنا من أقرب المسالك في الفقه ومنظومة البدوي الشنقيطي في أنساب العرب ومنظومة المغازي النبوية". وأثناء إقامته في الزبير وقعت معارك بين العثمانيين والغزاة الإنجليز (الحرب العالمية الأولى) شارك هو فيها بنفسه ذودا عن تلك الديار الإسلامية. فلما انهزم الأتراك وتقدم البريطانيون لاحتلال البصرة 1915م، ارتحل إلى بغداد، فنزل بها لدى أسرة أحد تلامذته، حيث لقي الترحاب والإكرام. وهناك توافد عليه عدد من العلماء كان من بينهم على وجه الخصوص العلامة محمود شكري الألوسي. بل يذكر الدليشي أن محمود شكري الألوسي كان يزور الشنقيطي في بغداد وأنه "ربما كانت بينهما معرفة سابقة لاختصاصه بـزيارته". وفي الحقيقة فإن بين الرجلين تشابها وتواردا في التوجهات الفكرية والمواقف السياسية. فكلاهما يتبادل العداء والبغضاء مع الاحتلال الانجليزي، ويساند الخلافة الإسلامية، ولو لم يكن منها إلا ما يمثله العثمانيون. كما أن لهما نفورا شديدا من البدع والخرافات السائدة، واندفاعا لنشر العقائد السنية السلفية، وإصلاح وتعميم النظم التعليمية. ومع أن إقامة ابن فال لم تطل في بغداد ولم تتجاوز بضعة أشهر بسبب زحف أعدائه الإنكليز عليها، فإن فترته فيها كانت كافية لاطلاع الألوسي على منظومة عمود النسب والحصول عليها منه، وكان ذلك سنة 1915م وهو ما يتناسب مع ما سيأتي من أن الألوسي أنهى الجزء الأول من شرح هذا النظم بعد ذلك بحوالي ثلاث سنوات. إلا أن أهم إشكال يرد على هذا الافتراض القوي، هو أن الألوسي في بداية شرحه لم يذكر أنه أخذه عن الشنقيطي، كما لم يذكر اسم الناظم الصحيح الذي كان الشنقيطي يعرفه، وذكره في مذكراته كما مرَّ قريبا. كما لم يذكر تلميذه المقرب بهجة الأثري ذلك. وهناك شنقيطي آخر ذكره السيد الأثري في مقاله عن منظومة البدوي وشرح الألوسي لها. حيث قال: "للشنقيطيين في هذه المنظومة اعتناء عظيم على ما سمعته من الفاضل الشيخ محمد الشنقيطي لما كان نزيل بغداد سنة 1340هـ (1922م) وهو يحفظها حفظا جيدا". ومن الواضح أن هذا الاسم: "محمد الشنقيطي" غير محقق ولا دقيق. ولكني أرجح أنه يعني العلامة محمد محمود التندغي الذي كان من علماء الشناقطة في الحرمين قبل أن يهاجر إلى العراق وينزل في بغداد في تلك الفترة، في ضيافة الملك فيصل الأول بن الحسين (1883-1933م)، وقد رحل بعدئذ إلى الأردن حيث أقام وتوفي رحمه الله. وكان عالما مدرسا آية في الحفظ والعلم. وهو وإن اشتهر اسمه بنسبه التندغي فإنه كان معروفا بانتمائه إلى أهل شنقيط. كما أن من عادة المشارقة عدم الانتباه للتركيب الشائع في أسماء الشناقطة. وعلى كل حال فإنه إن كان هو المعني لا يمكن أن يكون المصدر الأول لنظم عمود النسب بالنسبة للألوسي؛ لأنه قد ابتدأ شرح القسم الثاني منه، وهو نسب قحطان وما تفرع منه، "في سادس جمادى الآخرة سنة 1336هـ"(1918م) كما ذكر الأثري في "أعلام العراق". وهناك احتمال آخر بدا لي قويا أيضا، وهو أن مصدر هذه المنظومة لشارحها هو بغداد نفسها. أي أنه وجدها بين مخطوطات مكتبة جده الألوسي الكبير المفسر!. فبالدراسة والمقارنة يتضح هذا الاحتمال الثالث وهو أن الألوسي الحفيد ليس هو مقتنص هذه المنظومة من الشناقطة مباشرة، وإنما اقتنصها "له" جده من صائد الكتب وجامعها وباذلها: الشيخ أحمد عارف حكمت بن عصمت باشا (1786-1859م) صاحب المكتبة الشهيرة باسمه التي وقفها على طلاب العلم بالحرم النبوي وأصبحت اليوم جزءا من مكتبة الملك عبد العزيز في المدينة المنورة. ويتعزز هذا الاحتمال بما جاء في رحلة الألوسي الكبير التي دونها في كتابه "غرائب الاغتراب" حيث ذكر فيها أن عارف حكمت "أجازه الشيخ أحمد المالكي المغربي الشنقيطي إجازة عامة بأرجوزة طويلة". لكنه لم يذكر اسمها ولا مضمونها. بل يكاد الأمر ينجلي عن ذلك الاحتمال حين نجد الألوسي يقول في مقدمة شرحه إن الناظم هو "الفاضل الشيخ أحمد الشنقيطي المغربي". وهو ـ تقريبا ـ نفس الاسم، بذات الصفة، الذي قال الألوسي الجد إنه أجاز شيخَه عارف حكمت في تلك الأرجوزة، التي نرجح بذلك أنها ليست إلا نظم عمود النسب لأحمد البدوي بن محمدا، ومن ثم يكون الألوسي المفسر (الجد) بدوره قد أخذها عن شيخه عارف حكمت. وكما قدمنا فقد نشرت مجلة المجمع العلمي في دمشق وصفا وافيا عن هذا الكتاب في عددها الرابع بقلم تلميذ المؤلف؛ وهو علامة العراق محمد بهجة الأثري، الذي كان رئيس المجمع العلمي في العراق وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق وعَمّان والقاهرة، وكان ذلك في حياة المؤلف. يقول الأثري، بعدما أفاض في مدح المنظومة وذكر محاسنها ووصف مضامينها: "... وهذا ما دعا أستاذنا العَيْلم الشهير السيد محمود شكري الألوسي حفظه الله إلى شرحها وإيضاح مجملاتها وحل رموزها وكشف اللثام عن وجوه مخدراتها وإزالة غياهب الظلام عن فرائدها وفوائدها". ثم أورد في وصفه كامل مقدمة الناظم، وهي ثلاثون بيتا؛ من قول أحمد البدوي: حَمْدًا لِّمَن رَفَعَ صِيتَ الْعَرَبِ ** وَخَصَّهُــمْ بَيْــنَ الأَنَامِ بِالنَّبِي إلى قوله: ولستُ إلاَّ مِن مَّشاهِير الكُتُبْ ** آخُـــذُ، فَلْيُزَكِّـهَا أوْ لِيَسُــبْ

وقد جاءت مطابقة في ترتيبها وحروفها للأصول التي بين أيدينا هنا. ثم قدم المقال بيانا وصفيا لهذا الشرح فقال: "تصدى شيخنا الأستاذ الكبير علامة الديار العراقية السيد محمود شكري الألوسي حفظه الله قبل عدة سنوات إلى شرح هذه المنظومة التي لم ينسج على منوالها أحد، وحلَّ رموزها وأوضح مبهماتها وأطنب في الإيضاح والبيان في الغالب منها وأجاد كل الإجادة كما هي عادته الشريفة، ولم يترك لأحد مجالا في القول. فجاء من أبهر الآيات وأعظم المعجزات في بابه وأحسن المؤلفات ترتيبا وترصيفا في فنه، وأعظمها فائدة وأكثرها عائدة. شكر الله عمله المحمود. وهو في ثلاثة مجلدات بلغ عدد صفحاتها نحو 1000 بقطع الربع وتستوعب كل صفحة ما بين 18 و 19 سطرا بخطه اللطيف". ثم أورد فقرات وصفحات كاملة من نص شرح الألوسي هذا. وقد جاء في مقدمته: "الحمد لله الذي اختار العرب من بين أنواع الإنسان وخصهم بخصائص في الخَلق والخُلق وفصاحة اللسان، وجعلهم قبائل مختلفين في العادات والعبادات واللغة والبيان، وفرَّعهم من أصلين كريمين: عدنان وقحطان. والصلاة والسلام على المؤيد بإعجاز القرآن الذي اعتزت به العرب وافتخرت بفضله في كل زمان.... أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى الهادي، محمود شكري بن عبد الله بن محمود الألوسي الحسيني البغدادي. كان الله له وتقبل عمله: إني وجدت منظومة بديعة أرجوزة كأنها عقود جمان، تتحلى بفرائد فوائدها الأفواه والآذان، لم يسبق ناظمها إلى مثلها في علمها وعملها سماها عمود النسب. وقد اشتملت على نسب النبي (ص) وأصحابه أخيار العرب. كيف لا وناظمها فاضل عصره وأستاذ دهره الشيخ أحمد الشنقيطي المغربي. فلما رأيتها وجدتها قد حوت من علوم العرب على كنوز، ومن أخبار أخيارهم على صريح ورموز. غير أن كثيرا من أبياتها كالألغاز، ولإيجازها كادت تكون آيات إعجاز. غير أنها بكر لم تزف لأحد من ذوي العرفان، وغواني مسائلها لم يطمثهن إنسان ولا جان. ولم يكن لها شرح يوضح تلك المجملات، ويبين هاتيك الرموز والإشارات؛ فهي درة لم تثقب وغرة من غرر الأدب. لم تزل تستر عن العيون وتحجب، فلذلك حرم من اجتناء ثمراتها الطالبون من أفنان فنون العرب. فشرحتها شرحا يكشف عن وجوه مخدراتها اللثام، ويزيل عن فرائد فوائدها غياهب الظلام. وسميت ما كتبته وأوضحته وهذبته شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي النسب والحسب. تجاوزت فيه الاختصار المخل والتطويل الممل. واكتفيت بما يبين المراد وما يقوم بانضباطها، وسلكت الطريق الوسط وخير الأمور في أوساطها. ومعتمدي في شرحها بعد الاستعانة بالله تعالى على كتب اللغة كالصحاح والقاموس واللسان، وعلى ما ألف في الصحابة والسير... الخ.

الجهل بصاحب النظم، والوهم الغريب!

مما لا ريب فيه أن العلامة محمد بهجة الأثري هو أحد عمالقة العلم واللغة والأدب الذين يفتخر بهم العراق والأمة العربية. ولولا مواقفه السياسية المعارِضة لدعم الحلفاء في الحرب العالمية، والارتياب في وعودهم الكاذبة، والتحفظ على إسقاط الخلافة الإسلامية... لكان له ذكر أشهر ومقام أكبر في العراق الحديث، وإعلامه وإكرامه. وعلى كل حال فقد وصف الأثري في هذا المقال القيم كتاب شيخه الألوسي: "شرح منظومة عمود النسب وأخبار أخيار سلف العرب من ذوي النسب والحسب". كما قدم فيه نموذجا موجزا من منظومة الأنساب. لكنه ـ كما ذكرنا ـ أخفق إخفاقا عجيبا ووهم وهما غريبا في اسم صاحبها أحمد البدوي بن محمدا الشنقيطي!. فقد كتب بهجة الأثري في صدر هذه المقالة المهمة، مُعرفا بالناظم: "وهو على ما في (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) العالم الكبير والنسابة الشهير الشيخ أحمد المالكي المغربي الشنقيطي الذي أحيا أنساب العرب بنظمه عمود النسب..." الخ. وتكرر منه هذا الغلط (دون ذكر الوسيط) في هامش الصفحة 150 من كتابه المطبوع: "أعلام العراق". ونعلم أن صاحب الوسيط إنما كتب ـ في الصفحة 350 ـ: " أحمد البدوي المجلسي ثم البوحمدي، هو العالم الكبير والنسابة الشهير..." الخ. ولو لم يستشهد الأثري بنص الوسيط حرفيا، فيما سوى اسم الناظم، لكان الظن هو أن هذا التحريف الغريب منشؤه الاعتماد على الألوسييْن قبله. أما وقد أورد جل ما كتبه صاحب الوسيط بحروفه تقريبا، ثم حذف منه جوهره وهو اسم المؤلف وأبدله بما في الألوسي من خطإ... فهذا غريب حقا!.


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2014-10-13 17:10:13
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article8214.html