النزاعات القبلية دليل على هشاشة الدولة!!
وكالة كيفة للأنباء

الصراحة في الحديث أمر مطلوب وخاصة في القضايا الإستراتيجية. صحيح أنه مؤلم أحيانا، ولكن الأكثر منه إيلاما هو تغافل الفاعلين عما يعتمل داخل البلاد من عوامل تهدد كيان الوطن، وقد تسحبه الى فراغ العدم!

طبعا، لا يعطي السياسيون، في العادة، عناية كبيرة لبعض الأحداث الاجتماعية التي تبدوا لهم مألوفة و"تافهة". وخصوصا في فترات اشتداد حبل الفرقة حول أمور الحكم وتقاسم النفوذ في السلطة وتوزيع المنافع والتموقع في خريطة المشهد السياسي..

لقد تعود منهم المواطنون ذلك في هكذا لعبة؛ فلم يعد التجاذب بين فرقاء السياسة يعني لهم الشيء الكثير. كما تعود السياسيون، من جهتهم، على تقلب "المعيش" الاجتماعي دون أن يثير فضول التوقف عند بعض تجلياته، ولو مرة!

في هذا الاتجاه، وقبل أيام قليلة، اندلعت مواجهة مكشوفة بين قبيلتين في العاصمة السياسية، على مرمى حجر من احدى مفوضيات الشرطة، بسبب نزاع بين أسرتين على "أمتار" تتداخل فيها قطعتا أرض عائدتان للأسرتين. ومع أن الأمر تافه على هذا النحو الباعث على السخرية. فقد كاد يجر الى صدام دموي بأتم معنى العبارة وبأبشع صورة لها. ودون أن نتورط في تفصيل أسباب الحادث، وعن أي الفريقين يتحمل المسؤولية فيها، إلا أن الحادثة بينت أن الدولة هي أكبر الغائبين في هذه البلاد، وأن ولاء الأفراد للقبيلة ما زال – كما لو كنا في القرن السابع عشر – يختزن كل حرارته وعنفوانه. فلقد تداعت بطون القبيلتين، في استعراض للقوة، من كل جهة ومن كل حتة، للدفاع عن شرف القبيلة المنتهك في الامتار الأربعة!

وتداعت الفرق الفنية التليدة لتغني أمجاد القبيلة وتذكر التاريخ والحاضر بأيامها الخوالد، في بأس رجالها وقدرتهم على استرجاع الحق المغصوب. كل ذلك جرى بحماس لا يضاهى.. فكان ما كان مما سمعت عنه ولم أحضره.

أقول كانت الدولة غائبة، أولا، من أذهان الناس. فلو أنها حاضرة في الأذهان، بوصفها مظلة للجميع ولحماية الجميع، لتوجه المتظلمون الى الجهات المختصة لفض النزاع. والدولة غائبة، ثانيا، لأنه كان عليها أن تستدعي الطرف الرافض لتنفيذ قرار السلطة وتوجهه صوب جهات التظلم قانونيا وتحذره من عاقبة تحدي الدولة وقراراتها. وهي غائبة، ثالثا، لأنه كان بوسعها أن تدفع بالمسؤولية منذ الوهلة الاولى على أصحاب التأثير في القبيلتين ليتدخلوا قبل نشوب الاشتباك. والدولة غائبة، رابعا، لأن أجهزتها بقيت متفرجة على بدابة المواجهة، وكان بمقدورها حسم الموقف للوهلة الأولى. والدولة غائبة، خامسا، لأنها فشلت فيما نجح فيه عقلاء القبيلتين، بوضع حد لنزاع عبثي، لا يساوي سببه سفك قطرة دم من موريتاني!..

المؤسف أن هذا التداعي القبلي السريع والحاسم يحدث من أجل "أربعة أمتار" ولكن حينما ذبحت عصابات الجريمة المنظمة أبناء الجيش الموريتاني في لمغيطي، وتورين، والغلاوية، لم نشهد هذا التداعي "الرائع" أمام مباني أركان الجيش الوطني انتماء وحمية للوطن، ولأبناء الشعب عموما الذين يدافعون عن الموريتانيين بغض النظر عن انتمائهم القبلي!.. وحين تنكل أنظمة الاستبداد بأصحاب النخوة وتزج بهم في السجون لا نرى حمية قبائلنا! وحين يعبث العابثون بثروات البلاد ويبددونها في ملذاتهم، لا نرى قبائلنا!.. وحين ترتفع أسعار لقمة العيش على هذا النحو المجنون، لا نرى قبائلنا! وكأن نخوة وحمية قبائلنا لا توجد إلا في "الكزرات" والانتخابات.

ومن الغريب أن الدولة لا تتذكرها القبائل إلا حين تعطش قراهم، وحين يتهددهم خطر خارجي. إن السبب في ذلك هو غياب النموذج السليم في نخبة البلاد، التي يفترض فيها قيادة المجتمع نحو قيم المواطنة والدولة والقانون، ونحو الرفع من مستوى الوعي الاجتماعي والحداثة. فهذه النخبة هي الوبال، ليس لأنها تتفرج على وطنها ينهار كالطوب أمامها، بل لأنها هي من يغذي النزاعات الاجتماعية، ومن يذكي النعرات القبلية ويعيد انتاج قيمها البالية، ويعزف على أوتارها الحساسة، ويديم توترها، في مسعى هابط لتوظيفها بأبخس ثمن في أحط بورصة في السياسة.

فهذا التداعي الحر من أجل حماية "درجة" القبيلة ومكاسبها في "الكزرات"، هو نفسه التداعي المرغوب لدى نخبة القبيلة، أي قبيلة، من أجل حماية "درجتها" المتمثلة في انتخاب رموزها على نحو دائم. وهكذا تغيب تعبئة القبيلة في صالح المشاريع العامة، صيانة لمخزونها العاطفي، المنشود حصرا في الانتخابات والكزرات. ولذا، فإن من الضروري الإبقاء على مثل حالة الإستنفار السلبية هذه كامنة في نفوس "العامة" من القبيلة بقية إيقاظها عند الاقتضاء لكزرة أو اقتراع. إنه لا ينبغي أن يتوهم كائن من كان أن نشوب هذا النزاع القبلي قد جرى دون أن تأخذ شخصيات هامة من القبيلتين علما به مسبقا، وأنه كان بوسعها تفاديه، كما بدا في وسعها إنهاءه. ولكن الأمر ترك يتفجر لحاجة استثماره في شكل ضغط على السلطة، حين تدرك هشاشتها وضعفها أمام أحداث شبيهة، وحين تلمس حاجتها لتلك الشخصيات التي أطفأت الحريق..

إنه تراجع خطير على مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي، الذي قطع مسافة هامة، قبل مصيبة الانتخابات الشكلية. فقد رأينا رجالا ونساء كانوا بالأمس يحملون أفكارا وحدوية ويسارية وليبرالية، وهم اليوم يرفعون لواء القبلية، ويؤججون مشاعرها دون حياء..

إنه أمر مقلق على مستقبل البلاد المنظور، ما لم يتدارك صناع الرأي والقرار فيها ذلك. فقد يحترق هذا البلد – لا سمح الله – بسبب تافه، مثل نزاع على كرزة، أو شجار بين طفلين، أو بذاءة لفظية من شخص لشخص، أو ضرب جار لشاة جار..!! فما بالكم بقضايا اجتماعية ذات بعد تاريخي جارح كالرق ومخلفاته.

إنه لا عبرة في أن تفشل قوى سياسية وحزبية في ترحيل رئيس من كرسيه، ولكن قد يقود تصرف طائش، من فرد تافه، ولسبب أتفه، إلى رحيل وطن.

فاللهم سلم!!


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2013-04-24 14:12:18
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article3478.html