الصفحة الأساسية > الأخبار > فاطمة بنت انجيان تكتب عن اليوم الأخير في حياة والدها (عنوة الوداع /2)

فاطمة بنت انجيان تكتب عن اليوم الأخير في حياة والدها (عنوة الوداع /2)

الثلاثاء 30 تموز (يوليو) 2013  06:25

.. لم تمر إلا دقائق حتى دخل علينا "محمد المختار"، الذي كان قد خرج في الصباح، وأخبرني بأنه يريدني في أمر دون أن ينظر في وجهي ... مشيت خلفه بجسم لا حياة فيه، إلا لقلب يوشك أن يقف.. دخل غرفة النوم وتبعته ليواجهني داخل الغرفة بوجه متورم وعينين دامعتين..!

كان ذلك الوجه الباكي يشي بهول الخبر الذي لم يلبث كثيرا لينكشف ... كان وقع الخبرالمفاجئ مؤلما و قاسيا وصادما ...كانت تلك اللحظات القليلة التي أمضيتها في الغرفة أتجرع الخبر أشبه بدهر، واجهت فيه شر الخبر وشر نفسي وشر وساوس الشيطان، هذا الشرورالذي لولا الإيمان بالله ولطف منه كبير لما خرجت منه بعقل سليم..

خرجت من الغرفة والمنزل، والألم يعصف بما تبقى مني، ألتمس طريقا وطريقة يجمعاني ببقية أهلي .. التحق بي الجميع أمام المنزل لأعيد قراءة الوجوه المشفقة، واكتشف علمها المسبق بالخبر.. يبدو أنني آخر من يعلم!!!

رغم أنني كنت في قرارة نفسي مستسلمة ومُسَلِمَة بقضاء الله وقدره إلا أنني كنت أحلم بأنني لا زلت أصارع بعض الشك والوساوس وأجد صعوبة بالغة في السيطرة على نفسي المضطربة.. رحت أستعجل المسير والوصول.. أسابق روحي القلقة على حال الأهل والأحباء.... كان الطريق مليئا بالحواجز العسكرية.. غريب !!! .. لأول مرة في حياتي أنظر بغَرابة وريبة إلى البدلة والآلية العسكرية بعد أن عشت في دفئهما سنين كانا فيها لي مصدر عز وفخار وإحساس بالأمن والأمان .. لقد ذهب النور الذي كان عليهما!!!

فهمت أثناء الطريق بأن أمي وبقية أشقائي موجودين لدى عمي، الشقيق الأصغر لأبي"عبد الرحمن ولد انجيان"، بعدما غادروا منزلهم هربا، عند هدوء القصف قليلا في الليلةالثانية من الانقلاب، بعد أن كادوا يشهدون في الصبيحة الأولى له مواجهة كادت تندلعبين فرقة حراسة المنزل ـ من الجيش ـ وإحدى الدبابات المرابطة أمام المنزل، لولااستجابة الحراس الجنود لتوسل أمي وبكاء إخوتي، طلبا لعدم إطلاق النار على الدبابةالتي كانت تصوب فوهتها إلى المنزل ـ بحسب قائد فرقة الحراسة ـ في هيئة استعداد دونأن تطلق قذيفة باتجاهه..

وصلنا منزل عمي بعد نصف ساعة من المسير، تقريبا، مرت علي كأنها دهر آخر لم يبخل عليً الآخر بأنواع الهموم والظنون.... كانت أمي وإخوتي الصغار يخرجون من الباب ويتأهبون لترك الملجأ والعودة للدار.... ترجلت من السيارة تنتابني رهبة وإحساس بأننيأقف على عتبة الفصل الأصعب، والاختبار الأكبر من مشاهد الرُّعب والألم..

كان قلبي يحترق، وأعصابي تتلف، وأنا أتبين من بين الجموع أختي "اسويلكة" وهي تصرخوتنتحب دون أن تجدي معها أية محاولة لتهدئة روعها، تليها أمي تمشي وهي منكسرة، مثقلة الخطى، ذاهلة، و قد بدا عليها الإعياء والتعب ، وأخي الحسن ذو الأربع سنواتيتشبث بطرف "ملحفتها" خائفا يرمق الجموع بنظرات مرتابة وعلامات الذهول والاستغرابتعلو ملامح وجهه البريء......

اتجهت نحو الحبيبة مضطربة الخطى، على وقع ما أشعر به من رهبة وتوجس من أن يزيد اللقاء ما بي من وجع، وما بها من عذاب، لا أدري ماذا أقول أو أفعل؟ !!! .... كنتفي مواجهتها عندما رفعت في وجهها وقالت : <<ذيك متو؟ خالك ألا مولان !! أكبظي أخواتك و وهاوُن شور دارن .. خالك ألا مولان>>.. عانقتها قليلا، وقبلت رأسها دون أنأنبس ببنت شفة، قبل أن أتركها تواصل طريقها ولم تفارقني صورة الدموع المتحجرة فيعينيها، من فرط الحزن والكرب.. أخذت أبحث عن بقية أخواتي وكلي قلق وخوف من مواجهة ثلاثة هن: "لالة منت مولايالحسن"- أختي الكبيرة - و"اللولو" - الأكبر مني - و"الديدة" - الأصغر مني – وذلكلما عهدته فيهن من ضعف القلوب ورهفة الإحساس وشدة التعلق والقرب منه رحمه الله..

علمت بأن "لالة" و "اللول" ليستا موجودتين في منزل عمي، ولا أحد يدري عنهما بعدشيئا!.. و وجدت "الديدة" أو "الوالدة" كما كان يسميها رحمه الله -لأنها سميةوالدته "مريم بنت أعل البخاري"- أو "البارة" كما كنا نسميها نحن "غمزا" فيها من شدةالتصاقها وعنايتها به رحمه الله (كانت علاقتهما خاصة ومميزة سأتعرض لبعض من صورهافي قابل المذكرات من جزء "بداية الأمل" إن شاء الله) ...كانت شبه مغمى عليها وسطحلقة من النساء، لم أعد أذكر وجوههن، وكانت مغمضة العينين تتقاطر منهما الدموع، وتئن بين الحين والآخر، و كانت فجأة تفتح عينيها وتهذي بأسئلة ك <<ذ شنهو؟ اببامنين؟ انتوم أمالكم؟>>... وقفت للحظات أتأملها بشفقة، وأنا أغالب رغبة في في داخليبالبكاء والعويل، لكن الخشية من تعظيم قضاء العظيم الذي لا يعظم عليه شيء أدركتني، لأحسم أمري بالتجلد والاحتساب عند الله والمضي في تحكيم العقل والشرع..

أخذت "الديدة" و "اسويلكة" إلى السيارة التي كانت بانتظارنا، وتحركنا باتجاهمنزلنا الكائن في الحي "ف" قرب الجامع السعودي، حيث التحقنا ببقية الأسرة..

لم تختلط علي مشاعري من قبلُ كما اختلطت علي في ذلك اليوم لقد كانت مزيجا معقدا بين الصبر والغضب والألم وخيبة الأمل كان شعوري كما لو أن العالم جميعا قد خذلنا !!!

حال التواجد العسكري والمدني الكبير في محيط المنزل دون وصولنا بسرعة ويسر إلى بابه مما اضطرنا إلى النزول والمشي المسافة قبل أن نصله كما لم يكن الولوج سهلا نظراللتزاحم الشديد عند الباب وفي باحته .....كان هناك العديد من جنود الجيش وهم يشهرونسلاحهم و يصطفون على جانبيْ ممر اسفلتي صغير يؤدي إلى داخل المنزل يتجول بينهم نقيبمن الجيش استطعت أن أميزه بعد ما اقترب مني ليلقي التحية و يقدم العزاء في تأثربالغ .... كان منظرهم الغريب يوحي إلي بأحد احتمالين إما أنهم كانوا يؤمنون المنزلأو يبحثون عن شيء ما!!!..

كان البيت الباكي مكتظا ومليئا بالحركة لا تكاد تميز وجوه ساكنيه من عابريه لشدةتأثر الجميع... توافد أفراد الأسرة على البيت لدى معرفتهم بالخبر ليستكمل مشهدالتداعي بقايا لقطات الانهيار مما تدمي له القلوب وتئن الأفئدة..

يتبع

نقلا عن "تقدمي"

1 مشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016