الصفحة الأساسية > الأخبار > ومضات من حياة الوالد الشيخ /محمد المختار بن القاسم "بتار"

ومضات من حياة الوالد الشيخ /محمد المختار بن القاسم "بتار"

السبت 4 حزيران (يونيو) 2022  11:30

د/ لمات ولد محمد المختار القاسم

ومضات من حياة الوالد الشيخ /محمد المختار بن القاسم "بتار" (ت 1442هـ ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى:إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور .

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) .

وقال الشاعر:

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أحياء.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد: فليس من شأني الحديث عن الآباء، ولا الكتابة عن تاريخ الأجداد، لكن بعض أهل العلم والفضل أشار علي بذكر ترجمة لوالدي وشيخي محمد المختار بن القاسم " بتار"، أبرز فيها جوانب من سيرته العلمية، وأجلي من خلالها بعض جهوده الإصلاحية والاجتماعية، ليترحم عليه من رجع إليها، ويذكره بخير من اطلع عليها، فكتبت من ذلك ما يمكن أن أشهد على كثير منه شهادة قطع، وعلى الباقيشهادة سماع، بأسلوب ميسر، وعرض مختصر، وذلك من خلال العناوين التالية:

اسمه ونسبه.

مولده ونشأته.

طلبه العلم ورحلته فيه.

محظرته.

دوره الإصلاحي في المجتمع.

عبادته وتواضعه

وفاته وبعض المراثي.

قبل الدخول في الحديث عن هذه العناوين لا بد من الإشارة إلى أنني كنت أجد حرجا في تناول الموضوع؛ لأن كتابة المرء عن والده ككتابته عن نفسه، ولا يحسن حديث الإنسان عن نفسه، وما منعت الشريعة الشهادة للقريب جدا كالأبوالابن إلا لحكم موضوعية، ومبررات منطقية، بيد أن في الأمر مقاصدَ أخرى تخفف الحرج، وتنفي التهمة، مثل قصد الترحم وقصد الاقتداء والتأسي بأهل الخير والفضل.

ولم يزل التلاميذ يترجمون لشيوخهم، اعترافا بفضلهم، وتخليدا لمآثرهم، والله يوفقنا في القول والعمل، ويعصمنا من الخطإ والزلل. اسم المترجَم له ونسَبه:

هو محمد المختار "بتار" بن القاسم بن محمد الأمين بن القاسم بن سيد المختار بن محمد بن الطالب المبارك بن المختار بن عبد الله بن المختار بن أبي مالك، وأمه فاطم بنت محمود بن سيدي بن القاسم بن محمد بن الطالب امبارك (ابنة عم أبيه). مولده ونشأته:

ولد "بتار" في الضاحية الشمالية لمدينة كيفه حدود سنة 1953م في بيت معرفة وصلاح، فأبوه القاسم بن محمد الأمين "اباه" حافظ لكتاب الله تعالى، ذو سند في قراءة نافع بروايتي ورش وقالون، فقيه متمكن، اعتنى بتربية أبنائه وتعليمهم.

اشتهر بالبذل والإنفاق وكثرة العبادة، والابتعاد عن مظان الشهرة، يؤمه المساكين فيواسيهم، ويقصده ذوو الحاجات فيقضي حوائجهم، وكان يحث أبناءه على ذلك ويحضهم عليه، وسمعت الوالد يقول إنه لا يرد قاصد حاجة حتى بعد أن كبِر وقلّ ما بيده.

وكان كثيرا ما يقول لأبنائه ما معناه: اعطوا ولا تنظروا إلى ما عندكم، وتحكى عنه حكايات كثيرة في الإنفاق في سبيل الله وفي صدقة السر، وقدأوصى ابنه الأكبر محمد محمود على "الضعيف والضعيفة"، وما نسي تلك الوصية ولا قصّر فيها.

وأخوه محمد محمود بن القاسم فقيه مبرز، اختاره بعض قضاة عصره مزكي سر، يُعدِل الشهود ويُجرِحهم، ويستشيرونه في الأقضية والأحكام، إلا أن شهرته بإتقان القرآن وعلومه غلبت عليه؛ إذ كان دانيَ عصره، وشاطبيَ دهره، يقول العابد الناسك الزاهد الشريف القاضي / سيدي ولد سيد أحمد باب : إنه لا يعلم أحدا في"لعصابه" أعلم بالقرآن وعلومه من محمد محمود بن القاسم .

ويقول العربي بن بكالي - وكان يقرأ عليه مختصر خليل -: إن ما درس على الشيخ محمد محمود بن القاسم يثبت في ذاكرته، ويعرفه أكثر من معرفته لو درسه على غيره، ويُرجع هو ذاك لورع الشيخ وزهده.

جلس لتعليم الناس وإفتائهم، فكان قبلة لطلاب العلم، ووجهة للراغبين في التحصيل والفهم، وقد تخرج من محظرته جم غفير، وخلق كثير.

أما عبادته وتنسكه وزهده في الدنيا وتواضعه وكثرة إنفاقه - رغم قلة ما بيده- فحدث ولا حرج.

طلبه العلم ورحلته فيه:

جرت العادة عند أهل هذا البلد أن يبدأ الطفل بقراءة القرآن وحفظه ليتمكن في الفؤاد، ويستقر في الذهن على حد قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خالبا فتمكنا.

ولم يكن الوالد "بتار " بدعا من ذلك، فأول ما درس القرآن وعلومه من رسم وضبط وتجويد على والده "اباه" والشيخ محمد المصطفى بن سيد يحي ، وأخذ سندا في قراءة الإمام نافع براوييه ورش وقالون.

ثم رحل في طلب العلم فقرأ الفقه على شيوخ، منهم الشيخان: السالك بن آبه والسالك بن البشير .

ودرس النحو والصرف على خاله وابن عمه الشيخ محمد فال بن المختار والشيخ الشريف محمد بن البخاري ، وكان خاله محمد فال معجبا به وبفهمه.

أما الشيخ محمد بن البخاري فكان يقدمه على الطلبة في الدرس لذكائه، ويقول له: ليتك درست علي متن كذا وكذا، عيّنه لي الوالد لكن نسيت أنا .

ودرس أيضا على خالنا الشيخ حمود بن متار، ولا أعرف ما درس عليه، ويغلب على الظن أن يكون أصول الفقه أو قواعده أو مصطلح الحديث؛ لأن الشيخ حمود كان فقيها متبصرا داعيا إلى الرجوع إلى الدليل.

ولم تقتصر دراسته على هؤلاء الأعلام، ولم تقف عند هذا القدر؛ بل ظل طالبا للعلم، حريصا على التحصيل والفهم، مُولَعا بالمطالعة، شَغوفا بالمُراجعة، قد جعل الكتاب جليسه، واتخذ القراءة أنيسه، كل فترة يصحب متنا يستظهره، وينظر شروحه وحواشيه، ثم يأخذ متنا آخر وهكذا.

رأيته عاكفا على"الباب" من مختصر خليل يحفظه وينظر شروحه: " مغني قراء المختصر" و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" و"مواهب الجليل" للحطاب.

ثم عكف بعد ذلك على مراقي السعود وشرحيه:"فتح الودود" للعلامة محمد يحي الولاتي و"نثر الورود" للعلامة محمد الأمين الشنقيطي.

ولازم "المنهج المنتخب" للعلامة علي بن القاسم المعروف بالزقاق وشرح المرابط بن أحمد زيدان له، وكانت دراسته لهذه المتون دارسة حفظ واستظهار، لا دراسة نظر ومطالعة.

كان كثير القراءة والنظر في ألفية ابن مالك وشروحها، وشرح الشيخ سيد المختار (فتح الودود) على "المقصور والممدود" لابن مالك، ودرست عليه منظومة الآجرومية "عبيد ربه" وكان يحفظشرحا عليها لا أذكر صاحبه.

ولمّا طُبعت مؤلفات العلامة محمد مولود بن أحمد فال اليعقوبي اشتراها، وأقام على مراجعتها، فكان له سبح طويل مع "الكفاف" وشرحه"مرام المجتدي" و"مطهرة القلوب" وشرحها "نخبة المطلوب" و"محارم اللسان" وشرحه " اللآلئ الحسان" ؛ناهيك عن "آداب المسجد" وشرحه "المسعد".

كان - رحمه الله - يحضر درسا يوميا في التفسير، وآخر في الحديث استمر زهاء ثلاثين سنة، خُتم فيه صفوة التفاسير للعلامة الصابوني مرات، وكذلك "رياض الصالحين" للنووي، وكثيرا ما يحصل استشكال فيُرجَع للمطوّلات، أو تثار نازلة فتُفتح الشروح والأمهات.

يستمتع بمذاكرة المسائل، ويطرب لبحث النوازل، لا يأنف في الأخذ عمن هو دونه، قال وكيع بن الجراح:"لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه" .

وإذا رأى طالبا يدرس متنا جلس مستمعا، تارة يعلق موضحا، وتارة يثير استشكالا أو تصويبا، وقد منحه الله فهما ثاقبا، واستحضارا لنصوص النوازل، وموهبة في الإعراب، فلا تكاد تطرح نازلة إلا واستحضر نصها، ولا يسأل عن إعراب كلمة إلا وتبادر له إعرابها الصحيح.

وكان يحث أبناءه على طلب العلم ويحضهم على التحصيل، ويقول: لا أريد منكم إلا الاشتغال بالعلم، وأكفيكم أنا أمر الدنيا. محظرته:

تعود جذور محظرته إلى ما قبل المدينة حيث كان يدرس أولاده وبعض أبناء حلته، كما هي عادة قومه، وكان له عناية خاصة بتربية أبنائه وتنشئتهم تنشئة صحيحة، يعلمهم كتاب الله تعالى، ويدرس كلا منهم ما يناسبه وما يحتاج إليه،أذكر -وأنا صغير لمّا أبلغ الحلم- أنه كتب لمن يكبرني من الإخوة "المرشدَ المعين" لابن عاشر، وفصلَ الحيض والنفاس من مختصر خليل. وفي نهاية الثمانينات انتقل إلى مدينة "رياض"(نجد) ،فحط بها رحاله، وخلع نعاله:

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قَرّ عينا بالإياب المسافر.

بنى محظرة أمّها طلبة العلم من داخل الحي وخارجه، ينهلون من معين العلم العذب، ويعُلون من زلاله الصافي، وقد تخرج منهافقهاء وحفظة لكتاب الله تعالى، منهم من أخذ الإجازة"السند"؛ بعضهم أخذ عنه رحمه الله بلا واسطة، وبعضهم أخذ عمن أخذ عنه، وذلك كله بعنايته، وتوجيهه ورعايته.

كان قائما على مسجد القرية، وغالبا ما يكون أول آت إليه: يرفع الأذان، وينتظر الجماعة، ويؤم المصلين، وإن وجد من يُنيبه أنابه؛ إذ كان لا يرغب في الإمامة، وكثيرا ما يُتحف الحاضرين بنوادر الفقه وطرائف الأدب.

وفي سنة 2000م تم إنشاء رابطة العلماء الموريتانيين، واختير - دون طلب، وبلا رغب - عضوا مؤسسا للمكتب التنفيذي لرابطة العلماء الموريتانيين في لعصابة.

دوره الإصلاحي في المجتمع:

كان "بتار" رحمه الله ساعيا في مصالح قومه، معينا على نوائبهم، باذلا من وقته وماله في جلب المصلحة، ودرء المفسدة، يحمى الحمى، ويصون العرض،يواسي المريض، ويعطف على الضعيف، ويحن على الأرملة واليتيم، ويقضي حاج ذوي الحاجات.

كان قبلة للمحتاجين، ووجهة للسائلين، سواء من العشيرة أو من غيرها، يقول أحدهم: رُزئنا بموته وفقدنا كثيرا، فقد كان الواحد منا إذا كانت له حاجة جاءه وقضاها له بلا تأخر، وإذا نزلت به نازلة سأله عن حكمها فأجابه بلا تردد.

كان ثابتا في مواقفه، واضحا في اتجاهاته، لا يجامل في الحق، ولو أغضب ذلك كل الخلق، استفرغ جهده، وبذل وسعه في الصلح بين أبناء العشيرة، بعد أحداث"بيرة" المعروفة.

يسعى في مصالح مجتمعه ، ويبذل في ذلك الغالي والنفيس، لا يريد شرفا ولا جاها ولا منزلة عند أحد من الناس، لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، بل يعرف لكل ذي فضل فضله، ويُقدر الساعين في الشأن العام والقائمين عليه.

كانت له علاقات واسعة مع أهل العلم والفضل من مختلف مجموعات المنطقة، يحترمونه ويقدرونه، وكان كثيرا ما يعرض قضاء الحاجات على الناس من مجموعته وغيرها، والحكايات عنه في ذلك كثيرة.

وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل. عبادته وزهده.

المتحدث عن عبادة وزهد وإنفاق "بتار" رحمه الله تعالى لا يدري من أين يبدأ ولا حيث ينتهي:

تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد.

كان الوالدكثير العبادة، دائم الإنابة، يتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، يقرؤه راكبا وماشيا، قائما وقاعدا ومضطجعا، في الصلاة وخارجها، كلما أنهى ختمة استأنف ختمة جديدة، فهو حالٌّ مُرتحل، وفي حديث ابن عباس أن رجلا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟، قال:(الحالُّ المُرتحِل)، قال يا رسول الله : وما الحال المرتحل؟، قال:(صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره، ومن آخره حتى يبلغ أوله، كلما حَلّ ارتحل) .

كان رحمه الله ملازما للطهارة، مسبغا للوضوء على المكاره، والله ما رأيته صلى بتيمم إلا بعد عملية جراحية لعينه أمِر بعدها ألا يمس الماء، وقد أعاد جميع تلك الصلوات بعدُ؛ لأنه خشي ألا يكون حكمه التيمم.

كان كثير التنفل بين المغرب والعشاء، محافظا على رواتب النفل التي تتقدم الفرض أو تتأخر عنه، لا يمنعه من الصلاة في المسجد مرض ولا مطر، وأحيانا تكون الليلة مطيرة مظلمة، والشوارع بالطين والماء ممتلئة، فيجعل سجادته على رأسه ويخرج إلى المسجد، فيؤذن ويصلي.

كان إذا عمل عملا لزمه وواظب عليه،تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح:(أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) . عقلت منه- وأنا الآن"قد جاوزت حد الأربعين"- المواظبة على قيام الليل، يظل يقرأ ورده من القرآن، فإذا جن عليه الليل وصلى العشاء في المسجد رجع إلي البيت وانتصب قائما به.

كان كثير الإنفاق والبذل في وجوه الخير، وإذا اقترب حول زكاة ماشيته لم يهدأ له بال حتى يُخرجها، وأحيانا تكون بعيدة لانتجاع الكلإ، فيحزبه ذلك ويشق عليه إلى أن يأتيها بنفسه، ويؤدي ما افترض الله عليه من خير ما عنده بسخاوة نفس، وقبل ذلك يكثر تلهفه، وكم تردد على مسامعنا قوله "أح الفرض عاد اكريب".

كان يسأل عن الفقراء والمساكين من خارج عشيرته يواسيهم، ويذكرهم لغيره، وله حكايات كثر في الإنفاق والبذل.

في الأيام الخالية كان الناس يطبخون على الفحم، وعزَّوجوده في بعض الفترات، واشتدت الحاجة إليه، فكان يُوصله إلى الناس خفية، وفي إحدى الليالي - بعد أن هدأ الليل وأرخى سدوله، وأخذ الناس مضاجعهم- ما راع الوالدة - حفظها الله ومتعها بالصحة والعافية ـ إلا هو يحمل على رأسه خنشة كبيرة من الفحم ذاهبا بها نحو بعض بيوت الحي، وكان يظنها نائمة،

وقد ذُكر لنا بعد موته كثير من حكايات الإنفاق والبذل، وحسبنا ما نعرف:

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل.

ولمّا هاجه الشوق، وحركه التوق، إلى أداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عكف على مراجعة أحكام الحج والنظر في مسائله، ذلك أن الحج من الأبواب التي لم تكن تدرس من مختصر خليل في المحاظر؛ حتى إن بعض من شرحوا المختصر من علمائنا لم يشرحها وقد قال محمد مولود في الكفاف:

لا ما استقل بالبلاد النائية كالجمعات وشراء الأهوية.

فعكف الوالد على الحج من مختصر خليل، وأخذ ما تيسر من مختصرات، وأكثر من سؤال الحجاج حتى هيأ الله له حجا مستوفي الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب، عسى أن يكون حجا مبرورا.

كان كثير التواضع والزهد يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب حَلوبه، ويكون في مهنة أهله اقتداء بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيته تحسب أنه لا علاقة له بالعلم والمعرفة، ولا مكانة له في الأهل والعشيرة، ولا ينبئك عنه إلا من ناله معروفُه أو خالطه عن كثب.

حدثني بعض الأساتذة الثقات من خارج العشيرة أنه كان إذا احتاج لسلفة أتي إلى الوالد فقضى له حاجته، وذات يوم وجده في جماعة فكره القدوم عليهم، ومضى حتى قابل وجهه، فما إن رآهحتى جاء مسرعا، وقضى له حاجته.

يقول الأستاذ: وقع في نفسي شيء من ذلك، وقلت شيخ كبير من أهل العلم والفضل لا ينبغي أن نأتي إليه بهذه الطريقة، فاعتذرت له عما وقع مني، فضحك وقال هذا أمر عادي، ولا يحسن بك أن تعتذرعنه.

يحب الخير للغير، وينزل الناس منازلهم، كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سمع أحدا ذُكر بخير إلا أحبه وغبطه عليه، كثير النصح والتوجيه.

كان يحاسب نفسه قبل أن تحاسب: إذا آواه فراش النوم، وانتهى من أذكار النوم، وما تعود عليه من الأدعية أخذ في محاسبة النفس، ولقد حفظنا من كثرة ترداده كثيرا من الأبيات منها قوله :

يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا. وقوله:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادّكار الموت والهرم.

وقول ابن مالك:

أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفا مذ بان عنه صفاء.

حفظت هذا من كثرة ترنمه به، ودوام ترداده له حين يضطجع على فراش نومه، ولم أكن حينئذ قرأت "المقصور والممدود" لابن مالك، ولا الخلاصة وشواهدها.

وفاته وبعض المراثي:

في السنوات الأخيرة من عمر الوالد أكثر من العبادة وقلل من مخالطة الناس فكان يجلس في البيت وحده تاليا، أو ذاكرا، أو قارئا باكيا من خشية الله، وقد لاحظت ذلك إحدى الأخوات فقالت لي "بتار" لا ينام من الليل إلا قليلا، ويخلو بنفسه مرددا دمع العين، وهي تخاف أن يكون به مسّ جن، فقلت:الحمد لله هذا توفيق من الله ومئنة على القرب منه.

وذكر لي محمد بن القاسم ـ وكان من أقرب إخوته إليه، وأكثرهم له ملازمة، وأشدهم به ارتباطا ـ أنه لحظ في زمنه الأخير مبالغة في الإنفاق وكثرة في البذل والإعطاء:

وكثرة الإنفاق والهبــاتِ تُعـدُّ من دلائل الخيــــرات.

وفي ليلة عرفة صلى الوالد المغرب في المسجد إماما بالناس، وتنفل كعادته بين المغرب والعشاء، ثم صلى العشاء في المسجد مأموما، وأرشد الناس ورغّبهم في صوم يوم عرفة، وذكّرهم بفضله، ولمّا رجع إلى البيت أغمي عليه، فحُمل إلى المستشفى، فلما أفاق أخذ في الذكر والتلاوة حتى أسلم الروح لبارئها في تلك الليلة ليلة عرفة (تاسع ذي الحجة من العام 1442هـ الموافق 17 / 07/ 2021م)، رحمه الله وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وقد أثنى عليه كثير من العلماء، وكتب عنه كثير من النخبة شعرا ونثرا، وشهد له بالخير جم غفير من أهل الفضل، وفي الحديث الصحيح:(أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة) .

هذا ورثاه بعضهم بقصائد فصيحة وشعبية، وممن رثاه المقرئ الفقيه الأديب الإمام الزاهد الورع الباذل الدكتور سيدي عبد القادر بن الطفيل رئيس دار المصحف الشريف، وعضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، والأستاذ بمركز تكوين العلماء بقوله:

يا من له بالقلب أرحبُ منزلِ *** ووِدادُه عما يشوب بمعزلِ

يبقَى على صفو الوداد وقل مَن *** يبقَى بغير تغيُّر وتحوُّل

قد تعلمون المرء ليس بقادر *** يوما على ردِّ القضاء المنزَل

فاصبر على مُرِّ المصاب فإنه *** يُفضِي إلى حلْوِ الثواب الأجزل

ومحمدُ المختار أصبح وافدا *** ضيفا على ربٍّ كريم مُجزِل

ولقد تزود للرحيل ولَم يزل *** ذَا رحلةٍ لله غيرَ مرحَّل

لازال في أعلى الجِنان مخَلَّدا *** بجوار خير الرسْل أشرفِ منزِل

تُلقَى عليه من الكرام تحيةٌ *** أبدا ويُسقَى من رحيق سَلْسَل

والله أفضل حافظ وخليفةٍ *** في الأهل يَخلُفه بكل مؤمَّل

ثم الصلاة على النبي وآله *** وصِحابه الغُرِّ الكرام الكُمَّلِ

ورثاه أيضا الفقيه الأديب، الأستاذ المتفنن الأريب، إسماعيل بن محمد إسحاق : تجيء ركاب الليل بالعجب الإمر *** فتبدل حلو الأمر بالسمج المر

وتجعل هما وافتراقا وشدة *** مكان سرور واجتماع مع اليسر

ومن كان ذا لب تساوى نوالها *** لديه زعاقا كان أو كان كالخمر

رضينا قضاء الله فينا وحكمه *** وليس لنا بعد المشيئة من أمر

أحب لقاء الشيخ بتّارِ ربُّهُ *** فلبّى نداهُ بعد ما حاز من ذُخر

على أنّ بتّارا تطيش لرزئه *** حلوم ذوي الأحلام من جلل الأمر

فقد كان للعافين مفتاح رحمة *** وغيثا مريعا لم يزل قطره يجري

وكم قام بالمعروف في الناس آمرا *** وكم ريء ينهى عن مقارفة النكر

وكم جاءه من أسكر الجهل عقله *** فزالت به عن عقله نشوة السكر

فصبرا بنيه إن فيما أصابكمْ *** مصابا لنا طرّا نداويه بالصبر

وللشيخ عند الله ما شبّ طالبا *** له من حصول الفوز بالذُّخر والأجر

تلقّاه بالفردوس الاَعلى بجنة *** جزاءً له الأنهار من تحتها تجري

وحفّتكمُ من رحمة الله بعده *** جنود تقيكم ما يخاف من الدهر

وللأستاذ الأديب سيد محمد بن اعل نص شعبي رثى به الوالدين:(بتار ومحمودي بن زيدان) وقد كان الشيخ محمودي ناسكا، تاليا للقرآن، باذلا في وجوه الخير، ساعيا في مصالح العشيرة ، وكان هو والوالد صديقين متحابين، ولم يكن بين موتيهما إلا ثلاثة أيام، يقول الأديب سيد محمد:

أرْحَــــلْ عَنْ الدَّنْــيَ بَتَّار وَخْيَرَتْ ؤُمَحْمُودِي وَاحْزَنَتْ

اعْلِيهُمْ وَاحْزَنتْ اعْلَ انْهَار وَاخْيَرَتْ التَّالِ مِنْ وَخْيرَتْ

واخيرت انكُولُوهَا حَظَّارْ وَاكْفَاهُمْ وَخْــــيَرت بْلــــحْبَارْ

لَخْيارْ ألاّ حَــــامَدْ صَبَّارْ عَاكَبْ هَذ الِّ كَامَـــل شَفَتْ

ازكَلْنَ دَرْجَتْ كَلْ انْـهَارْ ازْكَلْن الاِمَامَة والسَّمْــــــتْ

ازْكَلن سَتْرَتْنَ فِي العَــارْ ازكلن لَكْتُوبْاتْفَكّـــــــــدتْ

اعْمَار الْمَـــساجِد فانْهَار واللَّيْل أعْطِيهُــــم بَاشْ أُعَدتْ.

وقد علق على تأبينالوالد الذي كتبتُكثيرٌ من الأحبة الفضلاء، والإخوة النبلاء، وكان ممن علق عليه شعرا الشاعرُ الكبير والأديب الشهير المفتش أحمدو بن لبات بقوله:

أبّـنتـــمُ فــأجدتـــم التــأبينــــا وبرَرتم بأبيكــم وأبينا

وكسوتم حسن المعاني لفظها حُسنا وأوْفيتم بذاك يقينا

رحم الإله فقيدكـــم إنـّـا نــــرى فيكم شواهد فضله تكفينا

ورَعى بعينِ عنايـة وتفضُّــل نسلَ الأكارم نسوةً وبنينا

وأدام حضْرتكم علينــا إنكـــم نِعم العزاء لكل رُزءٍ فينا.

فجاراه في البحر والروي الأديب السميدع، والكاتب المبدع المنسق محمد

سالم بن أعمر بقوله:

كنتم ولا زلتم لمأثور العلا رُكنا أثيلا في الــهدى ومَكينا

وأخذْتم عنه الكتاب بــــقوة نورا على مرِّ الزمــان مُبينا

وسلكتم البيضاء نهجا لاحِبا يَجْـــلو البيان بفقهــــه التّبيينا

ومِن الكريم على أبيكم نفحةٌ تنسي الهموم وتُفرح المحزونا

وتقرّ عين العابد التالي الذي سلك اليمين عــبادة ويــقينــــا.

وكتبت بعد ذلك أبياتا ثلاثة تصف يسيرا مما أحس به وهي:

القلب بعدك يا "بتار" حيران عراه همّ وأشجان وأحزان

لم تُلهه نِعمٌ لم تُسلــه مُتــــــعٌ إذ ليس يا أبتاه عنك سلوان

فلم يَغب وجهك المنير عن بصري ولا عن السمع تهليل وقرآن.

وعلق على هذه الأبيات كثير من الأحبة والإخوة، جزاهم الله خيرا، وأحسن إليهم، فلقد كان لعزائهم وتعليقاتهم الأثر الكبير في التخفيف عنا؛ وممن علق على هذه الأبيات الدكتور سيدي عبد القادر بقوله:

واصبر فما مات من كنتم له خلفا يأتيه من روحكم روح وريحان

وذكره الحسن الباقي له عُمـــر ثان به صفحة الأيام تـــــــزدان

والله يُــــخلفه فيكــم ويُــخلفكم فيه وفي الدين والقرآن سلوان.

وبالجملة كان الوالد "بتار" عابدا زاهدا كريما جوادا، مقبلا على أمر دينه

ودنياه، محافظا على تلاوة القرآن، محبا للمسلمين، ساعيا في خدمتهم ونصحهم.

(إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا "بتار"لمحزونون) . (اللهم ارفع درجة "بتار" في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه). اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، واغفر لنا إذا صرنا إلى ما صار إليه يا رب العالمين.

وصلى وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

بقلم عبيد ربه المعترف بذنبه لمات بن محمد المختار

جعلهماالله منالمصطفَين الأخيار

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016