الصفحة الأساسية > الأخبار > رد على بعض النقاط الواردة في حكم صادر عن المحكمة بكيفه

رد على بعض النقاط الواردة في حكم صادر عن المحكمة بكيفه

السبت 2 شباط (فبراير) 2019  12:00

بقلم/سيدعالي ولد القاسم مولاي

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: رد على بعض النقاط الواردة في حكم المحكمة:

أردت من خلال هذه الورقة الرد على بعض النقاط الواردة في حكم المحكمة، والتي استخدمتها لإدانة القاسم ولد ديدي ولد مولاي، خاصة ما يتعلق منها بالفقه الإسلامي أو أسلوب الاستدلال العقلي المنطقي، وسيكون هذا الرد في نقطتين تراعيان الترتيب السابق، والله أسأل أن يوفقني إنه سميع مجيب.

1- الأدلة الفقهية:

استخدمت المحكمة عدة أدلة فقهية أرادت من خلالها إثبات موجب القسامة في حق القاسم ولد ديدي ولد مولاي، ونفي دعوى الدفاع الشرعي عن تصرفاته، ونظرا لاختلاف طبيعة الأمرين وتباينهما فإن الجانب المنهجي يفرض علي تناول هذه الأدلة في نقطتين أتحدث في أولاهما عن أدلتها في موجب القسامة وفي الثانية عن أدلتها في نفي الدفاع الشرعي 1-1- الأدلة المتعلقة بموجب القسامة:

يبدو أن المحكمة لم تكن على دراية كافية بأحكام القسامة وكيفية تطبيقها، وهو أمر يمكن ملاحظته من خلال طبيعة استدلالها لموجبها وكيفية تطبيقها، وهو ما سنبينه في الآتي:

1-1-1- استدلالها لموجب القسامة ( اللوث)

انطلقت المحكمة في استدلالها لموجب القسامة من تعريف اللوث بأنه: " أمارة على القتل غير قاطعة"، وهو تعريف ذكره ابن جزي في القوانين الفقهية ( ص: 229 )، وهو تعريف صحيح للوث، غير أن المحكمة انطلقت مما يوحيه اللفظ واعتبرت أن هذه الأمارة غير محصورة، بل صرحت بأن ما ذكره صاحب المختصر في قوله: "والقسامة سببها: قتل الحر المسلم في محل اللوث: كأن يقول بالغ حر مسلم: قتلني فلان ولو خطأ...وكشاهدين بجرح أو ضرب مطلقا أو بإقرار المقتول عمدا أو خطأ... وكالعدل فقط في معاينة القتل أو رآه يتشحط في دمه والمتهم قربه وعليه آثاره" ( المختصر ص: 234-235 ) لا يقتضي الحصر وإنما هو تعداد لأمثلة اللوث ( الحكم ص: 14 )، وقد اعتمدت قبل ذلك على كلام لابن فرحون في التبصرة، - وإن أخطأت في النقل عنه قليلا، واقتطعت من الكلام بأسلوب مخل -فقالت إن ابن فرحون قال: " القسامة والمراد بها الوجوه التي يقع بها التلويث والتلطيخ في الدماء وهي كثيرة... إلا أن فيها ما له قوة لأجل ما احتف به من قرائن الحاملة على صدق مدعيه... والقسامة في هذا الباب أصل مخصص لنفسه لا يعترض عليه بغيره على ما وردت به السنة( الحكم ص 13).

وقد أحزنني كثيرا أن ينزل إلى هذا المستوى من استأمنه الناس على دمائهم ومصالحهم، ويكفي أن ننقل كلام ابن فرحون في التبصرة من غير اقتطاع مخل، حتى نتبين عدم الأمانة في النقل بالاقتطاع المخل والذي يوهم بعكس المراد، فالذي في التبصرة هو: "اللوث بثاء مثلثة والمراد به الوجوه التي يقع بها التلويث والتلطيخ في الدماء، وهي كثيرة، ومع كثرتها لا يتوصل بها إلى التمكن من الدماء لعظم خطرها ورفيع قدرها، فوجب الإعراض عنها إلا أن فيها ما له قوة لأجل ما احتف به من القرائن الحاملة على صدق مدعيه، ولذلك اختلف العلماء في تعيين ما يقبل من ذلك، فعند مالك - رضي الله تعالى عنه - أن اللوث هو الشاهد العدل على معاينة القتل... فإذا ثبت أن شهادة الواحد في ذلك لوث لا نصف شهادة تكمل باليمين، فكذلك قد يكون اللوث بغير العدل وباللفيف من النساء والصبيان؛ لأنه لطخ لا شهادة.والقسامة في هذا الباب أصل مخصص لنفسه لا يعترض عليه بغيره على ما وردت به السنة، بخلاف سائر الحقوق، والأصح أنه لا تجب القسامة بشيء من ذلك، ولا يراق دم مسلم بغير العدل... وإذا قال الميت دمي عند فلان فعند مالك أنها شبهة يقسم الأولياء معها... ومن اللوث الذي يوجب القصاص لو شهد شاهدان أنهما رأيا رجلا خرج مستترا من دار في حال رثة فاستنكرا ذلك، فدخل العدول من ساعتهم الدار فوجدوا قتيلا يسيل دمه ولا أحد في الدار غيره وغير الخارج...وفي (الجلاب) وإذا وجد رجل مقتول ووجد رجل بقربه معه سيف أو في يده شيء من آلة القتل وعليه آثار القتل، فذلك لوث يوجب القسامة لولاته.( التبصرة ج: 1 ص: 270 إلى 273 )، وبالمقارنة بين النقلين يظهر حجم اقتطاع كلام ابن فرحون لإيهامنا بقوله ما لم يقل، فهو يقول بحصر اللوث فقد أكد أن صور اللوث وإن كان يمكن أن تكون كثيرة فإنهلا يمكن أن يؤخذ بها جميعا.

والحق أن مفهوم اللوث عند المالكية وغيرهم من العلماء محصور منضبط، ولم يخالف في ذلك أحد من الفقهاء، فليست كل أمارة غير قاطعة أو كل قرينة توحي بصدق المدعى به لوثا تجب به القسامة، ولعل ذلك راجع عند المالكية إلى أنهم يرتبون على القسامة القود، فلا يمكن أن يبقى مفهوم اللوث فيها على هذا العموم؛ ولذلك سعوا إلى أن يكون مفهوم اللوث عندهم منضبطا محصورا، وقد صرح ابن فرحون في كلامه الذي نقلناه سابقا بذلك في قوله: "اللوث بثاء مثلثة والمراد به الوجوه التي يقع بها التلويث والتلطيخ في الدماء، وهي كثيرة، ومع كثرتها لا يتوصل بها إلى التمكن من الدماء لعظم خطرها ورفيع قدرها".

وقد نص ابن عبد البر في الكافي على أن اللوث الذي يوجب القسامة تعود صوره إلى أحد أمرين، ولا تجب القسامة بغيرهماأحدهما الشهادة على قول المقتول دمي عند فلان أو فلان قتلني، والثاني أن يأتي أهل المقتول بشاهد على رؤية القتل أو الضرب ( الكافي في فقه أهل المدينة ج: 2 ص: 1117، تحقيق ولد ماديك)، وهو الذي نص عليه مالك في المدونة حيث قال:

" لا يقسم في الدم إلا مع شاهد عدل أو أن يقول المقتول دمي عند فلان" ( المدونة ج: 4 ص: 4)، ونص عليه ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة بقوله: " وإنما تجب القسامة بقول الميت دمي عند فلان أو بشاهد على القتل أو بشاهدين على الجرحثم يعيش بعد ذلك ويأكل ويشرب" ( الرسالة ص: 122 ).

وقد اختلف المالكية في إدخال صورة ثالثة لصور اللوث، وتواتر أغلبهم على عدها لوثا، وهي أن يوجد قتيل بجنبه شخص يحمل الآلة التي قتل بها، ولا يوجد في المكان غيرهما(المقدمات الممهدات ج: 3 ص: 305/ بداية المجتهد ج: 4 ص: 213-214/ حاشية الدسوقي ج: 4 ص: 292/ تبصرة الحكام ج: ص: 273).

ويكفي في الدلالة على حصر اللوث عند المالكية – زيادة على النصوص الفقهية السابقة- أنهم نصوا على أن مجرد وجود القتيل في محلة قوم أو دارهم أو أرضهم لا يوجب عندهم شيئا( التمهيد ج: 23 ص: 218/ بداية المجتهد ج: 4 ص: 214/ مختصر خليل ص: 235.)، ولعل معتمدهم في ذلك ما أخرجه البخاري من أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة وكان أمره على البصرة في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين فقال: «إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلَّا فَلاَ تَظْلِم النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».

1-1-2- كيفية تطبيق القسامة:

رغم ما شاب الحكم من غياب اللوث المشترط في القسامة، وأخطاء أخرى في البناء التأسيسي للحكم والتي سنكشف عنها في مواضعها، فإن المحكمة أخطأت أيضا في كيفية تطبيق القسامة، فقد أمهلت أهل محمد مولاي ساعة يتشاورون بعد أن عرضت عليهم الحلف فأبوا ذلك وتعللوا بأنهم لا يستطيعون الحلف على أمر لم يحضروه، وقد أشارت الحكمة إلى ذلك بقولها: " وإذ وجهت المحكمة هذه الأيمان على الوجه المذكور فإنها قد قررت في حكمها التمهيدي منح أولياء الدم... أجلا يقدر بحوالي ساعة من النطق بهذا الحكم بالقاعة، فإن تردد أخيه سيدي عالي وابني عمه المساعدين له في الحلف لم تر فيه المحكمة نكولا عن الأيمان قبل انقضاء الأجل، فهم قد صرحوا أول الأمر أنه لا يمكنهم أن يحلفوا إلا على أمر يستيقنونه تمام اليقين... فردت عليهم المحكمة أنه إذا كان الأمر عندهم في اليقين والحلف على ما يستند عليه من القطع موكولا إلى هيئة المحكمة فإنها ستعتبر الأمر نكولا قاطعا لسريان الأجل المحدد بستين دقيقة، لذلك انصرفوا إلى فريق الدفاع عنهم...وبعد انتهاء المدة قرروا أداء الأيمان" ( الحكم ص: 13-14)، وعللت منحهم المدة وما صاحب ذلك بأنه تمكين لهم من وسائل دفاعهم، وهو خطأ شنيع في الفهم، فإن التمكين حاصل بتمامه في دعوتهم إلى الحلف وبيان ما يترتب عليه، والإنظار في هذه الحالة هو معنى يزيد على التمكين، بل هو أقرب إلى مصطلح الحفظ من التمكين.

وقد اتفق الفقهاء على أن من دعي إلى الحلف في القسامة فقال لا أحلف ثم قال أحلف لم يكن له ذلك، فقد نص المالكية على أن من عرضت عليه اليمين في القسامة فأباها فقد أبطل حقه، فإذا قال أحلف لم يكن له ذلك إلا إذا كان له عذر بين (البيان والتحصيل ج: 15 ص: 445)، وقد ذكر الشافعية أنه لو قال لا أحلف ثم قال أحلف لم يكن له ذلك قبل عرضها على المدعى عليه اتفاقا عندهم، واختلفوا في ردها عليه إذا نكل المدعى عليه( نهاية المطلب للجويني ج: 17 ص: 18)، وقد نص الحنابلة على ذلك غير أنهم قالوا إن اليمين لا تعود إليه بنكول المدعى عليه ( المغني ج: 8 ص: 501).

ولعل الفقهاء اعتمدوا في ذلك على الحديث المؤسس للقسامة، فقد جاء فيه أنه:انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَحطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ»، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: «فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ»، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ.( البخاري رقم 3173 واللفظ له/ مسلم رقم 1669)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليهم اليمين فقالوا كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ انتقل إلى ما يتبع ذلك، ولم يرد اليمين عليهم.

1-2- الأدلة المتعلقة بنفي الدفاع الشرعي:

يبدو أن المحكمة ليس لها إلمام كاف بأحكام الدفاع الشرعي، وهو أمر سنتبينه من خلال الأدلة التي استخدمتها في نفي الدفاع عن الأرض أو النفس، وتباين الحقيقتين- وإن اتفقا فيما يستندان إليه- يفرض علينا أن نتناولهما في نقطتين مختلفتين هما: 1-2-1- رد دعوى الدفاع عن الأرض:

من الغريب أن المحكمة جاءت في معرض حديثها عن رد دعوى الدفاع الشرعي بجزء من حديث: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ "( البخاري رقم 6878/ مسلم رقم 1676)، وهذا الحديث لا علاقة له بدفع الصائل عند العلماء، يقول النووي: " واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع" (شرح صحيح مسلم ج: 11 ص: 165)

وقد اعتمدت المحكمة في رد دعوى الدفاع عن الأرض على أن الأرض لم تصر بعد في ملك القاسم ولد مولاي، وأن الشغب وعدم الهدوء دال على ذلك، واعتبرت أن نزع السياج ليس مفوتا لملكيتها ولا مانعا منه بعد إسقاطه فلا يرتب إتلافا مباشرا، وعليه فإن اسقاطه يرتب التعويض ولا يستوجب دفع من نزعه (الحكم ص: 15-16)!!!

يتضح من تأمل هذه الحجج أو الفرضيات على الأصح أن المحكمة بنت أفكارها على أخطاء في تصور الوقائع، وجهل ببعض الحقائق الشرعية- لا أقول أو بتعمد الإعراض عنها-، فإن دعواها بعدم صيرورة الأرض في ملك القاسم وحيازته والاستدلال على ذلك بوقوع شغب فيه، ترده الوقائع، فإن وثائق ملكيته لها موجودة وقديمة(14/03/1980م.)ولم يعارضها بعد ما هو في قوتها، بل إن أهل محمد مولاي وجماعتهم لا ينفون أصل ملكيته لها وإنما يدعون مشاركته في ذلك، وحوز القاسم وجماعته لهذه الأرض قائم لا يقدح فيه أنها معروضة أمام القضاء، فقد عاينها القضاء وهي في حيازتهم، ولا سلطة لغير القضاء في رفع هذه الحيازة، ومجرد الشغب لا يرفع الملكية ولا الحيازة، - خاصة إذا كان في مقابلة حوز أو ملك سابق عليه- ولو كان الشغب يرفع الملك والحيازة في مثل هذه الحالة لضاعت أموال الناس وتوقفت مصالحهم، فيدعي أي أحد مشاركة من شاء ويشاغبه فترتفع حيازته وملكه للشيء المدعى، وهو أمر لم يقل به شرع أو عقل.

وفيما يتعلق باستدلالها بأن نزع السياج ليس فيه إتلاف لمال، وأن إسقاطه إنما يستوجب التعويض فقط، فإن فيه قصرا لمفهوم الاعتداء الذي يشرع رده في الأموال، وهو قصر لمفهوم بلا دليل، ومحاولة تبرير ذلك بأن نزعه وإتلافه يوجب الضمان هو تبرير خاطئ؛ لأنه يعود على مفهوم رد الاعتداء بالإبطال، فكل اعتداء على الأموال مهما كان قدرها يوجب ضمانها وتعويضها.

والاعتداء على الأموال ليس محصورا في إتلاف ذاتها، وإنما يتعداه إلى التأثير في منافعها، أو تفويتها ( ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج: 1 ص: 183)، ولا فرق في النظر الشرعي بين قليل المال وكثيره في جواز الدفع عنه، وهو أمر مجمع عليه بين الفقهاء( ينظر: الموسوعة الفقهية ج: 28 ص: 111-112)، ويكفي في الدلالة على عدم التفريق بين قليل المال وكثيره في العقوبة ما رواه مسلم في صحيحه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» (مسلم رقم: 137)، وقد روى مالك في الموطأ أنه كرر قوله وإن كان قضيبا من أراك ثلاثا( الموطأ ج: 4 ص: 152) ، وقد علق الزرقاني على هذا الحديث بأنه يدل على ألا فرق في الحق بين القليل والكثير من حيث الحرمة (شرح الزرقاني على الموطأ ج: 4 ص: 25).

1-2-2- رد دعوى الدفاع عن النفس:

اعتمدت المحكمة في ردها لدعوى الدفاع عن النفس على أن القاسم ولد ديدي ولد مولاي لم يلجأ إلى السلطة العامة مع إمكان ذلك قبل وقوع الاشتباك، وأنه بعد وقوع الاشتباك وسقوط الضحايا كان يمكنه الهرب، وافترض أن وجود هاتين الحالتين يجعل الخطر غير حال!!!، وقد نصت على ذلك بقولها: " وأما فيما يتعلق بدعوى الدفاع عن النفس... فهي مردودة أيضا لأن العدول عن الوسائل المشروعة بعد العلم بنزع السياج أو محاولة نزعه... وذلك بالتوجه إلى السلطة المختصة... لإبقاء ما لم ينتزع من السياج قائما، ثم الاستئذان بإعادة ما أسقط...وأما بعد الوقوع أي وقوع الاشتباك وإطلاق النار من جانب القتيل على ابن الزهرة الذي رفع حيا ومات في نواكشوط... وعلى ابن اسليمان الذي أصيب ثم اتهم ...فإن إمكانية الهرب ظاهرة وتضاف إلى إمكانية الهرب التي أغفلها المتهم... وهما أي هاتان الإمكانيتان تجعلان الخطر غير حال..." ( الحكم ص: 16).

والاعتماد على عدم إبلاغ السلطة وإمكانية الهرب بعد وقوع الاعتداء على مثل وقائع هذا الملف غير وارد، وينم عن عدم فهم لشروط تحقق الدفاع الشرعي، فإن الفرضية الأولى والمتعلقة بإبلاغ السلطة تندرج تحت شرط من شروط تحقق الدفاع الشرعي، وهو ألا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، وهو أمر لا يمكن تصوره هنا؛ لأن ذهاب القاسم لم يكن أصلا بغرض الدفع وإنما بغرض التفقد، كما أن الاعتداء لم يشرع فيه ولم تظهر بوادره، وقد صرحت المحكمة في مواضع متعددة من حكمها أنه حصل بغتة ( ينظر الحكم ص: 20)، فكيف يطلب من شخص أن يدفع اعتداء بوسيلة من وسائل دفعه مع أن الاعتداء لم تظهر بوادره ولا ما يدل عليه؟!!!

وأما الفرضية الثانية والمتعلقة بوجوب الهرب فهي مندرجة تحت شرط آخر من شروط دفع الصائل، وهو أن الدفع يكون متدرجا من الأخف إلى الأشد، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الهرب وسيلة دفع أصلا، والذين اعتبروه وسيلة دفع أوجبوا على المصول عليه الهرب وقيدوه بألا تكون فيه مشقة أو مضرة أو مذلة، والذين لم يعتبروه وسيلة دفع لم يلزموا المصول عليه بالهرب ( التشريع الجنائي ج: 1 ص: 483)، وهذا القول الأخير هو الذي تدل عليه كل الأحاديث الواردة في شأن دفع الصائل، ولعل ذلك هو ما جعل إماما من أئمة الحديث والفقه كالإمام الصنعاني يعلق على مسألة الهرب بقوله: " لا أدري ما وجه وجوب الهرب عليه"(سبل السلام ج: 2 ص: 458).

وعلى كل حال فإن العلماء تحدثوا عن الترتيب ووجوب مراعاته، غير أنهم قالوا إن حق التقدير فيه يرجع إلى ظن المصول عليه دون غيره؛ وذلك أن الشريعة الإسلامية – حسب كلام العلماء - أعطته حق التقدير في هذه المسألة فما غلب على ظنه فيها، فهو المعتبر ( حاشية الدسوقي ج: 4 ص: 249/ تحفة المحتاج ج: 9 ص: 186)، وقد نص المالكية على أنه يصدق في عدم مراعاته الترتيب بيمينه إذا لم يكن شهود، ففي شرح مختصر خليل للخرشي مانصه " ويدفعه بالأخف فالأخف فإن أدى إلى قتله قتله، ويقبل قوله: في ذلك مع يمينه إذا كان لا يحضره الناس"( مختصر خليل للخرشي ج: 8 ص: 112).

ومع أهمية الترتيب في دفع الصائل فإن العلماء استثنوا من وجوب مراعاته مسائل منها إذا احتدم القتال واشتد الأمر عن الضبط(- مغني المحتاج ج: 5 ص: 530.)، بل قد نص المالكية على أن الصائل إذا بادر بالقتال جاز دفعه من غير مراعاة الترتيب (حاشية الدسوقي ج: 4 ص: 357.).

وعليه فإنه لا يمكن تطبيق ما يتعلق بالترتيب أساسا على وضعية القاسم، ولا الاحتجاج عليه به؛ وذلك أن القاسم كان أصلا في وضعية لا يستطيع فيها الهرب وقت محاولته الدفع، فإن معه جماعة متفرقة في المكان وأصيب بعضهم، فلا يمكن أن يطالب بالفرار وتركهم في مثل هذه الحالة، ولا تسمح له الوضعية الأمنية للمكان بحرية التحرك، خاصة إذا صاحب ذلك وجوب الدفاع عن نفس الغير الذي راعته الشريعة الإسلامية ودعت إليه ( التشريع الجنائي ج: 1 ص: 473-474)، وقد نص القانون الجنائي الموريتاني في المادة 304 على أنه: " لا جناية ولا جنحة إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب قد دفعت إليه الضرورة لحالة الدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير"، ولا يمكن أن يقال إن وقت دفعه لم يحن بعد، وأنه كان يجب أن يؤخره، فإن العلماء مجمعون على أن إشهار السلاح واستعماله يكفي في تبرير الدفع (فتح الباري ج: 12 ص: 222/ سبل السلام ج: 2 ص: 380.)، بل نصوا على أنه "لو ساور أحد أحدا ببادئ عمل من البغي، فهو مرخص له أن يدافعه عن إيصال بغيه إليه قبل أن يتمكن منه، ولا يمهله حتى يوقع به ما عسى ألا يتداركه فاعله من بعد، وذلك مما يرجع إلى قاعدة أن ما قارب الشيء يعطى حكم حصوله، أي مع غلبة ظنه بسبب ظهور بوادره " ( التحرير والتنوير ج: 25 ص: 118-119 )، والقاسم ولد مولاي أحمد استعمل السلاح وأصاب به.

2- الأدلة المنطقية:

اعتمدت المحكمة أساسا في استدلالاتها المنطقية على دلالة الالتزام، ومن خلال هذه النقطة سنتبين أن تصورها لدلالة الالتزام هو تصور بدائي، وقد أدى بهاهذا التصور إلى ظن غير اللازم لازما، وقد تحدث المناطقة عن أن الخلل في الربط بين اللازم والملزوم، أو ظن غير الملزوم لازما ينتج نتيجة خاطئة حتما، يقول الشيخ محمد الأمين في مذكرته آداب البحث والمناظرة: " واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج إن ركبت مقدماته على الوجه الصحيح صورة ومادة مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه فيغلط، فيظن هذا الأمر لازما لهذا مثلا، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم، مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر" ( آداب البحث والمناظرة ص: 6-7).

ذكرت المحكمة أن قول القاسم ولد ديدي ولد مولاي إن تصرفه جاء دفاعا عن نفسه أو نفس غيره يدل بدلالة الالتزام أنه هو الذي قتل القاسم ولد مولاي أحمد، وقد نصت على ذلك بقولها: " وأن دعواه أنه فعل ذلك دفاعا عن نفسه وولده وماله متضمنة بدلالة الالتزام قتل القتيل" ( الحكم ص: 13).

ومن أجل بيان غلطها فنحن محتاجون إلى شرح دلالة الالتزام شرحا واضحا حتى يسهل على الناظر غير المختص أن يميز محل الغلط، ويتمكن من فهم ما نحن بصدد تقريره.

تعتبر دلالة الالتزام إحدى الدلالات اللفظية الوضعية، ويتوقف تصورها تصورا صحيحا على معرفتها مع قسيميها في دلالة اللفظ وهي دلالة المطابقة ودلالة التضمن، وهو ما سنبينه فيما يأتي:

أ-دلالة المطابقة، والمراد بها: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، وسميت مطابقة لتطابق الوضع والفهم، كدلالة الرجل على الإنسان الذكر، وكدلالة الأربعة على الأربعة.

ب- دلالة التضمن، والمراد بها: دلالة اللفظ على جزء كله، وبديهي أنها لا تكون إلا في المعاني المركبة، كدلالة الأربعة على الواحد أو الإثنين أو الثلاثة، فإن هذه الأعداد داخلة في الأربعة.

ج- دلالة الالتزام، والمراد بها دلالة اللفظ على خارج عن مسماه لازم له، بحيث يلزم من فهم المعنى المطابق فهم ذلك الخارج اللازم، أي أن دلالة الالتزام يفهم منها معنى لازم خارج عن اللفظ، كدلالة الأربعة على الزوجية التي هي قابلية الانقسام على متساويين.

ودلالة الالتزام هي أصعب دلالات الألفاظ؛ وذلك أن اللزوم فيها يأخذ صورتين هما اللزوم الذهني واللزوم الواقعي، وهو ما سنبينه في الآتي:

- اللزوم الذهني: ويسمى اللزوم العقلي، وهذا اللزوم يراد به اللزوم الذي يترتب على نفيه الوقوع في التناقض العقلي كدلالة السقف على الجدران، فإن نفي هذه الملازمة يترتب عليه الوقوع في التناقض العقلي؛ وذلك أن العقل يحكم باستحالة قيام سقف دون جدران.

- اللزوم الواقعي: والمراد به أن يكون الشيء ملازما للشيء في الواقع، غير أن نفي اللزوم لا يترتب عليه الوقوع في التناقض العقلي، كدلالة الغراب على السواد فإن لزوم السواد للغراب هو لزوم واقعي، فلا يوجد في الواقع غراب أبيض، غير أن نفي السواد عنه لا يوقع في التناقض العقلي، فالعقل لا يحكم باستحالة وجود غراب أبيض، وهذه الدلالة ليست داخلة في دلالة الالتزام عند المناطقة، وداخلة فيها عند الأصوليين والبيانيين.

وفيما سبق يقول صاحب السلم:

دلالة اللفظ على ما وافقه

يدعونها دلالة المــــــــــطابقة

وجزئه تضمنا وما لـــــــــــــــــــــــزم فهو التزام إن بعقل التزم

ومن خلال ما بيناه في دلالة الالتزام يتضح أنه لا التزام في الذهن ولا في الواقع بين دعوى الدفاع الشرعي والقتل، فلا يلزم الذهن ولا الواقع أنه كلما ادعي الدفاع الشرعي وجد القتل، وإنما دلالة الالتزام الصحيحة في كلام القاسم ولد ديدي ولد مولاي هي وجود تصرف منه، فإن من ادعى الدفاع الشرعي يلزم من كلامه وجود تصرف منه، وإذا قلنا بنفي هذا التصرف وقعنا في التناقض العقلي والواقعي، فلا يمكن أن يوجد دفاع شرعي دون وقوع تصرف، وهذا التصرف فصله القاسم في استجواباته، وقال إنه كان عنده مدفع بوفلكهف أطلق منه النار بغية حماية نفسه وغيره.

يتضح من هذه الورقة حجم الأخطاء الواردة في الحكم وفداحتها، من حيث البناء التأسيسي والواقع التطبيقي، وهناك أخطاء أخرى تتعلق بإغفال الشبه البينة التي تكفي لنفي المسئولية الكاملة عند الإدانة بالبينات الواضحة، وغياب الوسائل المعتمدة في تفسير الوقائع، كتشكيك المحكمة في أن القاسم ولد مولاي أحمد هو أول من بدأ بإطلاق النار مع وجود الشهود على ذلك وتواترهم عليه، وإهمالهابعد ذلك أنه لم يمت إلا بعد أن صدر منه فعل القتل والجرح العمديين.

وقد أعرضت عن تتبع جميع الأخطاء الواردة في هذا الحكم – مع كثرتها- وركزت فقط على الأخطاء المتعلقة باستدلالاتها الشرعية والمنطقية؛ لما للأدلة الشرعية من القدرة على خلق القبول في نفس المؤمن، فإن المؤمن إذا قيل له هذا حكم الله رضي به مهما كان لازمه؛ ولما للأدلة المنطقية من الإقناع والتبرير، والله أسأل أن ينفع بهذا الرد وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب، والله الموفق.

بقلم/سيدعالي ولد القاسم مولاي/ الهاتف 22009398

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016