تكثر هذه الأيام العناوين "المعادية" لموريتانيا في الصحافة الأسبانية ويقود دبلوماسيون أسبان في نواكشوط حملة شرسة لمناهضة اتفاقية الصيد الموقعة يوليو الماضي بين موريتانيا والاتحاد الأوربي. وبشكل مكشوف يهدد المسؤولون الأسبان بالعمل على عرقلة المصادقة على الاتفاقية داخل الهيئات الأوربية المعنية، من أجل حمل الجانب الموريتاني على العودة مجددا إلى طاولة المفاوضات وعلى تقديم تنازلات أكبر.

وبشكل خاص يتحدث الأسبان عن "موريتانيا الجاحدة لنعمهم" وعن "موريتانيا الطماعة"، كما يركزون على الأسطول الأسباني الذي غادر الشواطئ الموريتانية وعلى عدد عماله الذين يزيدون قليلا على المائتين. وموازاة مع الغضب الأسباني، صعد عدد من رجال الأعمال الموريتانيين –ممن يدورون عادة في فلك الأوربيين والأسبان بشكل خاص- من مناهضة اتفاقية الصيد، فكان الحل السهل بالنسبة لهم تسريح مئات البحارة فيما يشبه محاولة ابتزاز للحكومة وترك انطباع قوي لدى الرأي العام بأن اتفاقية الصيد الجديدة هي بالفعل كارثة على الاقتصاد الوطني.

والملفت للانتباه أن مدير الاتفاقيات في الاتحاد الأوروبي ورئيس الوفد الأوروبي المفاوض ستيفان دبيبر، صرح خلال حفل توقيع الاتفاقية بأنه "لا يمكن الحديث عن رابح أو خاسر في هذه الاتفاقية لأنها ضمنت مصالح الجميع" قبل أن يضيف بأن "الاتفاقية حرصت على ضمان مصلحة الطرفين، وعلى ديمومة الثروة السمكية وتحسين الموارد السمكية لموريتانيا، مع احترام كامل للمعايير الدولية المنصوص عليها في هذا المجال".

أين كان الأسبان حينها؟ ولماذا غضوا الطرف طيلة 15 شهرا من التفاوض عن مصالحهم ولم يتذكروا فضيلة الدفاع عنها إلا بعد توقيع الاتفاق؟ ومن الذي يقف خلف الضجة الحالية؟ هل الغضب الأسباني هو الذي يحرك رجال الأعمال الصيادين؟ أم أن غضب رجال الأعمال هو ما يذكي الغضب الأسباني؟

على هذا المستوى لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان ذلك الواقع الذي تطور مع الوقت وجعل الأسبان يتوهمون أن موريتانيا محميتهم الخاصة على الأقل حين يتعلق الأمر بملفات حساسة مثل: الصيد، الارهاب والهجرة. فقد ظلت الأساطيل الأسبانية طيلة العقود الماضية تسرح في الشواطئ الموريتانية ونجح الأسبان في فرض رؤيتهم لمحاربة الهجرة غير الشرعية على الجانب الموريتاني الذي تحول في بعض الأحيان إلى حارس حدود مطيع.

ومن جهة أخرى طور الأسبان تنسيقا أمنيا مع الموريتانيين واستفادوا من تسهيلات كبيرة مكنت من إطلاق مجموعة من رهائنهم لدى تنظيمات القاعدة وأكثر من ذلك ظل الأسبان يفرضون بقاء مجموعة من السلفيين الموريتانيين –داخل السجون الموريتانية- خلف القضبان منذ انقلاب 2005.

وقد ازدهرت العلاقات الموريتانية الأسبانية –بشكل خاص- بعد تدهور العلاقات بين موريتانيا وفرنسا على خلفية اعتقال الأخيرة لضابط موريتاني متهم بممارسة التعذيب. وأصبحت تلك العلاقات أكثر حميمية بعد رعايتهم للعلاقات الموريتانية الاسرائيلية. وفي بعض الأحيان حظي الدور الأسباني في موريتانيا بقبول القوى الغربية لدرجة أنهم نجحوا في فرض وجهة نظرهم –أوربيا- حول انقلاب 2008 والمتمثلة في ضرورة مساندة الانقلابيين باعتبار "أن الاستقرار في موريتانيا أهم من الديمقراطية.

كل هذا الارث من الروابط يمكن أن يجعل الأسبان يقتنعون بأن موريتانيا فعلا محمية لهم وأنهم قادرون على الضغط عليها للحصول منها على الأقل على ابروتوكل اتفاق يعيد أسطول إقليم "روزا كوينتانا" إلى المياه الموريتانية، غير أن ذلك لا ينبغي أن يدفع إلى تجاهل أن الصراع على المياه الإقليمية الموريتانية هو أيضا صراع داخلي بين جيلين من رجال الأعمال أحدهما تربى في كنف الأساطيل الأوربية والثاني يحاول الصعود على أكتاف الأساطيل الصينية في ظل اتفاقية الصيد المثيرة للجدل مع شركة بولي هوندون الصينية.

ثم إن الغضب الأسباني قد يكون الشجرة التي تخفي الغابة، أي أنه قد يكون تعبيرا عن غضب أوربي من "الغزو الصيني" للمياه الموريتانية "بشروط تفضيلية" لما يمثله ذلك من تهديد للمصالح الأوربية على المديين المتوسط والبعيد. غير أن كل ذلك لا يمكن أن يبرر "الوقاحة الأسبانية" خصوصا وأن السمك الموريتاني الذي يثير لعابهم هذه الأيام ظل لعدة عقود تحت رحمة أساطيلهم مقابل مبالغ زهيدة بالمقارنة مع حجم الثروة التي ينهبون سنويا بالتمالئ مع وكلائهم المحليين.

هذا إذا لم تكن هذه "الوقاحة الأسبانية" بندا سريا من بنود اتفاقية الصيد يترك للجانب الموريتاني –في مرحلة أولى- فرصة تمرير الإتفاقية باعتبارها انتصارا للمصلحة الوطنية، لكنه في نفس الوقت يحفظ للأوربيين –في مرحلة لاحقة- "حقوقهم" من خلال ملحقات تضمن لهم ما يطلبون من مكاسب!

اقلام