في مفارقة تُذهل العقول وتُصيب الوعي بالدوار، نرى في موريتانيا أن من يُفترض فيهم أن يكونوا روّاد الوعي، ودعاة العدالة، وحملة مشاعل الحكم الرشيد — هم أنفسهم أول من يسارع إلى المطالبة بما لا تُبرره قواعد التوزيع العادل للموارد، ولا تستسيغه فلسفة الإنصاف في المال العام.
نواب الشعب، أساتذة الجامعات، المعلمون... من كان يُنتظر منهم الدفاع عن الصالح العام أصبحوا أول من يدق أبواب الدولة بحثًا عن امتيازات فردية تحت عناوين براقة: "تحسين وضع"، "زيادة خاصة"، "قرض وظيفي"، وغير ذلك مما يُمنح تحت ضغط الصوت العالي، لا تحت منطق الأولوية والعدل.
وهنا تتفجر الأسئلة:
هل أصبحت الدولة تُكافئ من يصرخ أكثر؟
وهل تحوّلت الدولة من راعٍ للمصلحة العامة إلى مائدة يتقاسمها الأقوياء؟
ثم من يُفكر في الأيتام، والعجزة، والفقراء، وذوي الدخول الهشة الذين لا صوت لهم؟ من يُراعي حقهم في الميزانية العامة، حين تُقتطع الملايين لصالح فئة بعينها، لا لأنها الأَولى، بل لأنها الأقوى صوتًا وتنظيمًا؟
إن ما يُسمى اليوم "مطالب" ليست كلها ناتجة عن مظالم، بل كثير منها قائم على المقارنة والغيرة والضغط.
المطالب بطبعها لا تنتهي، والمطالبون لا يشبعون، ما دام الباب مفتوحًا.
أما المظالم، فهي محدودة، ويمكن رفعها إن وجدت النية والعقل.
لهذا، يجب أن يكون شعار الدولة: "ابدأوا بالمظالم قبل المطالب"، لأن المظالم تُعالج، والمطالب تُتناسخ.
تأمل مثلًا ما يحصل في قطاع التعليم:
بدل أن يُمنح بعض المعلمين قروضًا ميسّرة — وهي لا تصل الجميع، وتفتح أبواب التفرقة — كان الأجدر رفع راتب المعلم، وتحسين علاواته، وتعميم التحفيز ليشعر الجميع بالعدل، لا بالتمييز.
فالراتب العادل شعور جماعي بالكرامة، أما القرض فهو منحة انتقائية لا يُبنى عليها إصلاح.
ثم إننا رأينا في بعض القطاعات، تسوية وضعية العاملين "العقدويين" بعد سنوات من التهميش، وكانت تلك خطوة مباركة لأنها عالجت مظلمة، لا لأنها أرضت شهوة مطلب.
إن فلسفة تسيير المال العام لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالعدل، والجدوى، والأثر، والقدرة على زرع الثقة.
ولا شيء أفسد الثقة في الدولة مثل غلبة منطق الامتياز، وتجاهل منطق الإنصاف.
في الختام:
على الدولة أن تبدأ بالمظالم لا بالمطالب،
لأن المظالم واضحة، مؤلمة، محدودة، قابلة للرفع.
أما المطالب، فهي مثل السراب، كلما أُجيبت واحدة تولدت غيرها، ولا تنتهي أبدًا.