المنظومة الأمنية في الساحل: نحو ما بعد الاقليم/ تقدير لمركز اوداغوست

 

تقدير لمركز أودغست للدراسات الإقليمية – مايو 2025

مدخل:

في وقت يشهد فيه الساحل الإفريقي تسارعا غير مسبوق في الانهيار الأمني، وانسحابا ملحوظا للقوى التقليدية، وتصدعا في الأطر الإقليمية، تتكشف ملامح مرحلة جديدة لا تمكن قراءتها إلا بوصفها لحظة انتقالية من مفهوم "الإقليم" كمنصة تنسيق إلى حالة من التفكك الشبكي العنيف، حيث لا وجود لمرجعيات جامعة ولا لمراكز ثقل مستقرة. لقد أصبحت المنظومة الإقليمية، التي كانت تمثل في السابق أداة لترتيب الأمن الجماعي والتنمية العابرة للحدود، عاجزة عن احتواء موجات الانفلات الأمني والسياسي، مما أتاح لتشكيلات غير رسمية أن تشغل الفراغ، وتعيد رسم توازنات القوة بطريقة منفلتة من كل قيد مؤسسي.

وبات من الضروري، أمام هذا التفكك البنيوي، أن يعاد التفكير في أدوات التحليل الجيوسياسي وأطر الفهم الإقليمي، بما يواكب واقعا جديدا يتشكل خارج المنطق التقليدي للدولة الأمة أو الأقاليم المتجانسة. ذلك أن ما يجري اليوم لا يقاس فقط بحدة العنف أو بعدد الضحايا، وإنما بتآكل الإحساس الجمعي بالانتماء إلى منظومة إقليمية لها وظيفة سياسية وأمنية متفق عليها.

أولا: من انهيار الاستقرار إلى تفكك المفهوم

بحسب تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي 2025" الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، سجلت منطقة الساحل ما يزيد عن 51% من الوفيات المرتبطة بالإرهاب عالميا في عام 2024، وهي النسبة الأعلى منذ بدء توثيق المؤشر. وتظهر خريطة الحوادث المسلحة توسعا متسارعا لمناطق الاشتباك، حيث لم تعد العمليات تتركز في الحزام التقليدي الممتد من تمبكتو إلى كايا، بل امتدت نحو المناطق الشرقية والجنوبية في النيجر، واقتربت من الحدود مع نيجيريا وبنين، مما يشير إلى انتقال مركز الثقل الإرهابي جنوبا وشرقا في منحى مقلق.

ووفق بيانات مجلس الأمن الدولي (أبريل 2025)، فإن الجماعات المسلحة توسعت جغرافيا وتعمقت اجتماعيا في كل من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، بينما فقدت الحكومات السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها، وباتت تدار من خلال مفاوضات محلية قسرية، أو صفقات تهدئة ظرفية مع الجماعات المسلحة. وتفيد بعض التقارير الميدانية أن هذه الجماعات باتت تقدم خدمات موازية في بعض المناطق، مثل التحكيم في النزاعات المحلية، وفرض ضرائب مقابل الحماية، مما يعمق من أزمة الشرعية الرسمية ويكرس نموذج "السلطة البديلة" في الأطراف المنسية من الدولة.

لا يقتصر هذا الانهيار على الجانب الأمني، لأنه يطال أيضا البنية السياسية والتنظيمية التي كانت تؤطر مفهوم الإقليم. فمع تفكك مجموعة دول الساحل الخمس، وخروج ثلاث دول محورية منها، ثم إعلان تشكيل تحالف دول الساحل في 2023، دخلت المنطقة مرحلة جديدة تتسم بالانكفاء السيادي، وتفكيك شبكات التنسيق التقليدية، والقطيعة مع المؤسسات الإفريقية الجامعة مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، التي بات ينظر إليها كأداة ضغط خارجي بدلا من كونها مظلة تضامنية.

وقد شهدت هذه المرحلة استقالة فعلية من منطق الإجماع الإقليمي، لصالح ممارسات ترتكز على الاستثناء السيادي والتحصين العسكري الداخلي، حيث حل منطق البقاء في السلطة محل منطق المشاركة في القرار. كما أُعيد تعريف التعاون الأمني لا بوصفه مدخلا للمأسسة وبناء الثقة، بل كأداة لحماية النظم الانقلابية وتعزيز استمراريتها في وجه الضغوط الداخلية والخارجية. وفي ظل صعود سرديات مقاومة التدخل، وتراجع الديمقراطية الانتخابية، أصبحت التحالفات الجديدة تراهن على خطاب السيادة الصلبة، دون أن تمتلك قاعدة مؤسسية تعصمها من الانفجار الداخلي أو الانكشاف الإقليمي.

ثانيا: كونفدرالية دول الساحل

تتكون كونفدرالية دول الساحل من النيجر، مالي، وبوركينا فاسو، وهي تحالف عسكري-سياسي يتسم بطابعه الانقلابي، نشأ كرد فعل على ما تم اعتباره فشلا للتعاون مع القوى الغربية وتواطؤا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ضد الأنظمة الجديدة في هذه الدول. وقد سعت هذه الكونفدرالية إلى بناء نموذج بديل للشرعية الإقليمية قائم على الخطاب السيادي المناهض للتدخل الأجنبي وللاستعمار الجديد، لكن دون أن يصاحبه إطار مؤسسي واضح أو رؤية متماسكة لحوكمة التعاون بين أطرافه.

وبحسب تحليل صادر عن مركز تشاتام هاوس (أبريل 2025)، فإن هذه الكونفدرالية تعاني من عدة اختلالات بنيوية، أبرزها غياب الرؤية الاستراتيجية الموحدة، وضعف التنسيق العملياتي في المجالات العسكرية والأمنية، فضلا عن التباين العميق في الخلفيات العقائدية والهويات السياسية للجيوش الحاكمة، مما يعقد مهمة بلورة مشروع جماعي طويل الأمد. ومن شأن هذا الانقسام الداخلي أن يعزز من هشاشة هذه الكونفدرالية، ويجعلها عرضة للشلل أو التفكك في حال تغير موازين القوى أو نشوب خلافات بين أعضائها.

ورغم محاولات بناء استقلالية استراتيجية عن النفوذ الفرنسي والغربي عموما، إلا أن هذه الدول انزلقت تدريجيا نحو أنماط جديدة من الارتهان لشركاء غير تقليديين مثل روسيا وتركيا، مما أدى إلى إعادة إنتاج منطق التبعية، لكن بصيغة مغايرة. فبدلا من التبعية الاقتصادية والمؤسسية الكلاسيكية، باتت الدول المعنية ترتبط بصفقات أمنية، وتعاونات عسكرية، وتسهيلات جيوسياسية تفتقر إلى آليات الشفافية والمحاسبة، وتقوم غالبا على منطق المعادلة الأمنية مقابل الصمت السياسي. وبالطبع فإن هذا التحول يقوض أي طموح فعلي نحو الاستقلال الاستراتيجي، ويكرس واقعا متعدد التبعيات، تتوزع فيه الولاءات والمصالح بعيدا عن منطق السيادة الكاملة أو الشراكة المتكافئة.

ثالثا: خريطة تهديد جديدة

تظهر تقارير حديثة، أن الجماعات الجهادية في الساحل لم تعد تكتفي بتمركزها التقليدي في المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بل شرعت في إعادة تشكيل فضائها العملياتي عبر التمدد جنوبا، وتحديدا نحو دول مثل غانا، وتوغو، وكوت ديفوار. ولا يعكس هذا التمدد ديناميكية انتشار جديدة، فقط، وإنما يشير أيضا إلى قدرة متزايدة على بناء شبكات دعم لوجستي ومالي عابرة للحدود، تستفيد من ضعف البنية الأمنية في المناطق الحدودية لهذه الدول.

وتشير معطيات ميدانية موثوقة إلى أن شمال غانا قد تحول إلى مركز حيوي لتقديم الدعم الطبي واللوجستي للجماعات القادمة من بوركينا، مستفيدة من وعورة التضاريس، ومن ضعف التنسيق بين القوات الأمنية المحلية، ومن تغلغل شبكات التهريب التقليدية. ويطرح هذا الواقع الجديد تحديات أمنية حادة لدول الساحل الجنوبي التي ظلت لسنوات تعد ضمن المناطق الآمنة نسبيا، ويجعل من الضروري تطوير مقاربات استباقية قائمة على العمل الاستخباراتي المشترك وتبادل المعلومات بين دول غرب إفريقيا.

ضمن هذا السياق، لم يعد بالإمكان الحديث عن الساحل كجغرافيا مغلقة أو محصورة ضمن حدود وظيفية تقليدية، لأنه بات من الأدق توصيفه كـ "مجال متشظ ومفتوح"، تتقاطع فيه شبكات المصالح والنفوذ والدوافع الدينية والاقتصادية والإثنية. كما تختلط فيه مسارات الهجرة القسرية مع شبكات التهريب، ويتداخل فيه العنف السياسي مع التدخلات العسكرية الأجنبية، في مشهد جيوسياسي فوضوي لا يخضع لأي ضبط إقليمي جامع. ومن شأن هذا الانفلات في التكوين الجغرافي أن يعمق هشاشة الدولة، ويفرض على دول الجوار مراجعة نماذج أمنها القومي من منظور عابر للحدود، بدلا من الاكتفاء بمنطق الدفاع الموقعي أو الترتيبات الثنائية الظرفية.

رابعا: موريتانيا على هامش الإقليم.. أم على تخوم الانفجار؟

مع انسحاب القوى الغربية من دول الساحل الثلاث، برزت موريتانيا بسرعة كشريك مفضل للاتحاد الأوروبي في ملفات الهجرة والأمن، وهو ما أكسبها صفة "ركيزة الاستقرار" في الخطاب الأوروبي الرسمي ووسائل الإعلام الغربية. وقد تم تعزيز هذا التوصيف بتوقيع اتفاقيات ثنائية متعددة، وتكثيف التعاون في مجالات مراقبة الحدود والتدريب الأمني، بل وحتى الشراكة في مشاريع الطاقة المتجددة.

غير أن تقريرا صادرا عن مشروع Megatrends Afrika(مايو 2025)، حذر من هذا التصور المتفائل، كاشفا أن ما يتم تقديمه كاستقرار هو في الواقع استقرار شكلي، يستند إلى بنية سياسية مغلقة تحتكر فيها النخبة الحاكمة السلطة والموارد، واقتصاد أوليغارشي تتحكم فيه تكتلات تجارية ضيقة، وهيمنة عسكرية تحاكي نماذج السلطة في باقي دول الساحل. ويؤكد التقرير أن هذا النموذج، وإن بدا أكثر انضباطا، لا يختلف في جوهره عن المنظومات الهشة التي انهارت في الجوار، ما لم يجر تدعيمه بإصلاحات مؤسسية جادة وباندماج اجتماعي حقيقي.

كما أن ضغط الهجرة، ووجود أكثر من 270 ألف لاجئ مالي، إلى جانب اتساع نطاق التعاون الأمني مع أوروبا، قد يولد ارتدادات داخلية متزايدة. فعلى المستوى الاجتماعي، يتفاقم الضغط على البنى التحتية والخدمات الأساسية، مما يعمق هشاشة التماسك الوطني، ويعيد تنشيط توترات كامنة بين المكونات المحلية والمجتمعات الوافدة. أما على المستوى المؤسسي، فإن الانخراط المتزايد للأجهزة الأمنية في مهام ضبط الهجرة قد ينتج احتكاكا متناميا مع المجتمع المدني، خاصة في ظل غياب آليات الشفافية والمساءلة، وتكرار اتهامات بانتهاكات في مراكز الاحتجاز أو الترحيل. وحذر التقرير من أن تراكم هذه التوترات قد يحول ما يبدو شراكة أمنية مربحة إلى مصدر جديد للهشاشة الداخلية.

خامسا: أي أفق؟ نحو ما بعد الإقليم

لم تعد الأزمة في الساحل أزمة محلية تخص دولا منفردة، لأنها أصبحت أزمة بنيوية في مفهوم "الإقليم" ذاته، من حيث قابليته للضبط الجماعي، وقدرته على إنتاج إطار مؤسسي قادر على الاستجابة للتحديات المعقدة والعنيفة. لقد انكشف عجز الإقليم عن التماسك بفعل التناقض بين خطابه السياسي وشروطه الواقعية، وتراجع فعالية المؤسسات التي كان يعول عليها كحواضن للأمن والتنمية.

فالإقليم الذي بني في بداياته على فرضيات التعاون الأمني، والتنسيق العابر للدول، والوساطة الدولية، يشهد اليوم إعادة تشكل فوضوي تقوم على منطق الانكفاء السيادي، والانفصال عن قواعد الشرعية الإقليمية، والتوجه نحو تعاقدات أمنية قصيرة الأمد قائمة على المصلحة الظرفية وليس على الرؤية المشتركة. ويعكس هذا الانزياح انهيار الأفق الجماعي، ويفتح في نفس الوقت الباب أمام تصدع معمق في الجغرافيا السياسية لغرب إفريقيا بأكملها.

ومن هنا، فإن البديل لا يكمن في مجرد استعادة الأطر التقليدية التي أثبتت عجزها، وإنما في إعادة تخيل الإقليم من منظور بنيوي جديد، يراه مجالا متعدد الطبقات، تتفاعل فيه مستويات الأمن والتنمية، وتتشابك فيه آليات السيادة الوطنية مع مقتضيات الانفتاح الإقليمي. ويتطلب هذا التخيل صياغة هندسة مؤسسية مرنة، تستوعب الطوارئ الأمنية دون أن تنزلق إلى السلطوية، وتعيد وصل ما انقطع بين المحلي والعابر للحدود، ضمن تصور متكامل يعترف بالتنوع ويدير التناقض بدل أن ينكره.

خاتمة

ليس ما نشهده في الساحل اليوم مجرد فشل أمني ظرفي، وإنما هو انهيار متكامل للمعمار السياسي والمؤسسي الذي بني عليه مفهوم الإقليم في إفريقيا الغربية منذ تسعينيات القرن الماضي. حيث جرى تقويض الأسس التي كانت تعتمد لضبط المجال الإقليمي، سواء من خلال آليات الوساطة الجماعية، أو المبادرات متعددة الأطراف، أو صيغ التدخل الوقائي.

وإذا لم يفهم هذا التحول العميق بوصفه لحظة تأسيس لنموذج إقليمي جديد، وتم النظر إليه على أنه مجرد أزمة قابلة للاحتواء، فإن كل محاولة للعودة إلى "الوضع الطبيعي" ستكون أشبه بمحاولة بناء فوق أطلال دون ترميم، أي قفزا في فراغ مفاهيمي وعملي، وتجاهلا لواقع جديد يتشكل على هوامش النظام الإقليمي التقليدي، ويعيد تعريف السلطة، والأمن، والانتماء، من خارج الخرائط الرسمية.

وعليه، فإن الحديث عن "ما بعد الإقليم" لم يعد ترفا مفاهيميا أو تمرينا نظريا، وإنما غدا ضرورة تحليلية وميدانية لفهم عالم تستبدل فيه خرائط الضبط بخرائط التفكك، وتعاد فيه صياغة الجغرافيا بلغة تتقاطع فيها القوة العارية مع الشبكات اللادولتية، وتتوارى فيه الحدود خلف مشاهد السيولة الأمنية والتشظي المجتمعي. وهذه الجغرافيا الجديدة لا تنشأ من فراغ، وإنما من انهيار المنظومات التي كانت تؤطر المجال الإقليمي، ومن استعصاء أدوات الإصلاح التقليدية عن استيعاب منطق الفوضى المنظمة الذي يحكم الإقليم اليوم.

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.