د.إدِّى ولد آدُبَّ من إحكام صنعة الشِّعر إلى امتلاك ناصية البحث والنَّثر
وكالة كيفة للأنباء

قدر لي أن أتردد لسنوات على جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، وأحضر الكثير من جلسات النقاش لرسائل الدكتوراه في شتى صنوف المعرفة، لكن ما أحسسته وأنا أحضر مناقشة أطروحة دكتوراه تقدم بها أخي وصديقي الحميم: إدِّى ولد آدُبًّ كان مغايرا، فقد عشت وعاش معي الحضور الرائع كما وكيفا، ساعات ممتعة أبان فيها إدى ولد آدب عن مقدرة كبيرة بثقافتة الواسعة ، ومؤهلاته العلمية الرفيعة، وعن علو كعبه في ميدان الأدب عموما والأندلسي منه تحديدا ، حيث فاضل ـ عمليا ـ بينه وبين جل الباحثين الذين تقدموا لنيل شهادة الدكتوراه في هذه الجامعة ، فكان جذيلها المحكك وفارسها المغوار ، فجال وصال ـ ارتجالا ـ من خلال أطروحته (المفاضلات في الأدب الأندلسي ـ الذهنية والأنساق) فى شتى مناحى ومجالات وأغراض الأدب الأندلسى ، وعبر جميع الأنساق ، مفاضلا بينه ذاتيا تارة ، ومع غيره تارة أخرى ، مع حرصه أن لا يسمح لنفسه أن ينساق وراء المألوف من اجترار وتكرار أعمال السابقين ، فجاء عمله ـ حسب شهادات أعضاء اللجنة العلمية المناقشة ، وهي لجنة مميزة من خيرة أساتذة الأدب العربي ـ برؤية جديدة فى نسق معرفي متين وأسلوب رصين ولغة نقية مبينة ، سالكا مسلكا فنيا بديعا ، ألمح إلى ذلك أحد أعضاء اللجنة قبل بدء المناقشة بقوله:(عشنا مع هذا البحث وقتا ممتعا لكن اللجنة لابد أن تقول شيئا ).

أقول: استطاع الباحث إدِّى ولد آدُبَّ ـ بعد جهد جهيد وملازمة طويلة للكتب والمكتبات ووسائل البحث المختلفة أن يخرج الأدب الأندلسي ضمن عباءة المفاضلات في ثوب جديد ومختلف ، زانه بلمساته الخاصة ، وختمه بطابعه المميز ، ذهنية وأنساقا ومنهجا وأسلوبا .. متحليا بصبر وأناة الباحث الجاد ، الذى آلى على نفسه أن يضيف إضافة علمية تجعل عمله له ، وتنأى به عن مواطن الشبه العلمية ، أفكارا ومنهجا وأسلوبا ، فكان له ما أراد بفضل الله ومنه.

وبهذه المناسبة السارة ـ التى هي بحق مفخرة للوطن والمواطن ، وكل أهل وأصدقاء ومحبى هذا الشاعر الكبير والأديب المتميز ـ أهنئ أخى وصديقى الحميم:الدكتور إدِّى ولد آدُبَّ على هذا الإنجاز الرائع وهذه الثمرة الطيبة المباركة (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض).

حقيقة لم يكن فى الأمر غريب ولاجديد علي بحكم معايشتى الطويلة ومعرفتى المباشرة للدكتور: إدِّى ولد آدُبَّ .

لقد كان كمن يُسِفُّ وطنه المَلَّة ، فحين تنكر له الوطن ولم يقدره قدره كان هو حريصا على التعريف بوطنه خير تعريف ، وعلى تمثيله أحسن تمثيل .. ولما أهمله القائمون على الثقافة والتعليم فى بلده أصر هو على أن تكون الثقافة الشنقيطية حاضرة فى مختلف المحافل أين ما حل وارتحل ، ولسان حاله :

بلادى وإن جارت علي عزيزة وأهلى وإن ضنوا علي كرام .

كما كان مصرا على إعطاء صورة ناصعة ـ لاتدع مجالا لشاك ـ فى أن بلاد شنقيط (موريتانيا) لاينفك نبعها فياضا بشعراء وأدباء على مستوى التحدى ، أشار إلى ذلك أحدهم مخاطبا إدى أثناء المناقشة قائلا:(عرفناك شاعرا متمكنا لكن ما لم نكن نعلمه أنك تمتلك ناصية النثر إضافة إلى الشعر).

وحتى لا أحرم القارئ الكريم مشاركتى متعة وإثارة هذه المناقشة الرائعة أتركه مع تتبع وقائعها بصورة مختصرة ، كالآتى:

بعد عرض مقتضب عن سير ة الباحث:إدِّى ولد آدُبَّ من طرف رئيس اللجنة د. محمد مفتاح اكتفى فيه بما قل ودل أحال الكلمة للطالب الباحث ليقدم أطروحته فى نطاق الوقت المسموح به أكاديميا.

وفى تقديم الباحث لأطروحته اعتبرأن: (المفاضلات ـ الأدب ـ الأندلس ، هي الوحدات الأساسية ، التي جاءت ـ في ثالوثها ـ مطلقة ، مما جعلها أكثر أهلية لتجلية ذهنية المفاضلات المبتغاة أطروحة ، باعتبارها حالة متحكمة في تفكير الأندلسيين وسلوكهم ، تتقمص (مجموعة من القضايا المرتبة في نظام معين) تعلن عن نفسها عبر جميع الأنساق بيانا ومكانا وزمانا وإنسانا وإيمانا وعرفانا ، لتمثل هذه الأطروحة محاولة إعادة تركيب للذهنية الأندلسية بكل خصائصها المائزة ، لأن المفاضلة ذهنية عابرة ومخترقة لجميع هذه الأنساق ، والأندلس لا تصدق إلا على جميع هذه العناصر في إطلاقها . وقد تحكمت خطية وحدات العنوان ، وترتيبها المنطقي - من الأخص إلى الخاص إلى العام - في بناء أبواب البحث ، حيث تمحض الباب الأول للمفاضلات تأسيسا للأطروحة ، وانفرد الباب الثاني للأدب مضمار العبقريات ، بينما خصص الباب الثالث للأندلس فضاء الهويات المتفاعلة ، وكأن في ذلك إيحاء بأن المفاضلات ثمرة يانعة ، والأدب غصنها النضير ، والأندلس جذعها الراسخ ، الذي يمدها بالخصوبة والنماء .

وقد اندرج تحت الأبواب الثلاثة أحد عشر فصلا ، توزعت على سبعة وأربعين مبحثا ، كل عنوان منها يمثل أطروحة مستقلة ، إلا أن شتات هذه الأطاريح الصغرى قد تناغم وتساوق في محيط أطروحة المفاضلات الأم ، رغم صعوبة التحكم منهجيا في هذا الفضاء المترامي الأطراف).

ولم يخف رئيس اللجنة انطباعه حول عرض الباحث قائلا: إن تقديم الطالب لبحثه ارتجالا فى حدود الوقت المسموح به :( 20 دقيقة) مدعاة للإعجاب وهو دليل على التحكم فى الموضوع .

ثم يأتى دور الأستاذة المشرفة (حياة قارة) : لتبين أن هذا البحث بشكل عام عبارة عن: (مشروع غطى مساحة أندلسية واسعة .. و يقدم تصورا واضحا ، ينم عن جهد جهيد بذل في إنجازه ...وقد جاء امتدادا لقراءة فاحصة للتراث الأندلسي ، حيث سبق له (أدي ولد آدب) أن قدم أطروحة لنيل ماجستير في موضوع : الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي ، أبان فيها عن علو كعبه في الإبداع والتحليل والمناقشة لمنظومة الإيقاع في المقامات ، واستطاع أن يخترق أسوارها ، ليختبر الإيقاع الذي هو معناها وهيأتها.

وقد هيأته هذه الخطوة الأكاديمية الجادة للدرج في مدارج البحث الأكاديمي ، ليخترق فضاء أندلسيا آخر هو المفاضلات الأدبية .

ولا يخفى على القارئ أن هذا الفضاء يَمٌّ لا ساحل له ، (خاض فيه الخائضون، وميدان ركض فيه الراكضون )، حسب عبارة أبي القاسم الكلاعي الأندلسي .

ويأبى الطالب أدي (ولد آدب) إلا أن يركض مع الراكضين في هذا المجال ، ولكن في اتجاه مختلف ، ليكشف عن آلية ومقاييس بها يختبر مضامين وحدود المفاضلات في الأدب الأندلسي .. بها استطاع أن ينفذ إلى عمق المفهوم ... مما سمح له بصياغة شبكة من العناصر المتفاعلة ، ساعدته على تأويل المفاضلات من خلال تصور عوالم ممكنة ، تمتد في سلسلة من التناظرات ، لتشمل مساحة واسعة من الثقافة الأندلسية .. ثم خلق حوارا بينه وبين هذه النصوص الممتدة في الزمان والمكان ، عمد فيه ... إلى تشييد معمارية للمفاضلات ، وبناء أنساق لها ، حيث حاول اكتشاف أفكار في التراث الأندلسي ، وإعادة صياغتها وبنائها ، وفق تصور يقرأ مثل هذه الأفكار ، قراءة لا تنحصر في استنساخ ما راج قديما وحديثا حول المفاضلات ، وإنما سعى إلى وضعها في بنية نظرية منسجمة ، وإعادة ترتيبها وتنظيمها على أساس معرفتنا المعاصرة ، والأسئلة التي يطرحها الوقت الراهن ...

لأجل ذلك اعتمد على مناهج متنوعة ، ليمتلك القدرة على التحليل والتفسير والتجديد في الرؤية).

وقد أكد الأستاذ د. سعيد يقطين ما ذهبت إليه الأستاذة المشرفة من تزكية للباحث وتنويه بالبحث .

وحين نستمع إليه مباشرة نجده يقول: ( إنه مسرور بالجهد الذي بذله الباحث في هذا العمل ، الذي لا يمكن لقارئه إلا أن يخرج بخلاصات تؤكد المجهود الذي بذل في الإنجاز ، وبالذكاء ، وبالقدرة على تمثل الموضوع ، وعلى إخراجه على الصورة التي اطلعنا عليها في هذا العمل .

فادي(ولد آدب) مثقف واسع الثقافة ، إلى جانب كونه شاعرا متمكنا ، وباحثا جادا يسعى دائما إلى التميز ، وستظهر كل هذه العناصر في هذا العمل ، لذلك جاءت الأطروحة ذات مميزات عدة : أولها : الشمول ، لأنها حاولت أن تغطي الموضوع من كافة جوانبه الأدبية والثقافية ، وجوانبه المتعلقة بالمرجعيات ، وتحديد المفاهيم ، إضافة إلى الإطلاع الواسع في هذا الموضوع الذي جعله تحت عنوان : المفاضلات

وأخيرا القدرة على لملمة هذه المادة الغزيرة التي حاول ـ بذكاء الباحث ـ أن يقدمها لنا من خلال أبواب ومباحث.

وقد أعرب الأستاذ يقطين عن إعجابه ـ على العموم ـ ببناء الأطروحة ، ملاحظا أن القلق المعرفي الذي تحكم مركزيا في الباحث خلال إنجازها هو هاجس الإضافة العلمية إلى ما أنجزه السابقون ، وقد حقق العمل جمع مادة لم تتأت للآخرين ـ حسب وجهة نظره ـ ، مؤكدا ـ في الوقت نفسه ـ ثقته في جرأة الباحث وقدرته على الاستمرار.

وفي الأخير خلص إلى أن الموضوع واسع متشعب ، وله علاقة بالمشاكل التي صارت تطرح في الوقت الراهن ، مثل : إشكال الهوية ثقافيا وسياسيا وفكريا ، وقضية الانتماء ، فهو إضافة نوعية للأعمال التي تجيب عن الأسئلة الراهنة .

وقد رحب الأستاذ سعيد يقطين بالباحث ( المناقًش) بين هذه الزمرة من الباحثين (المناقشين) ، معتبرا أن الجامعات بحاجة إلى أستاذ مثله ، ولاسيما في بلده موريتانيا ، قائلا- في شيء من الدعابة-: ( فما دام الشعراء يقبلونك بينهم ويجيزونك، فنحن كذلك نقبلك ونجيزك).

أما الأستاذ الليبي د: عبد الحميد الهرامة الخبير في الإيسيسكو فيقول: إن ( هذه الرسالة مفعمة بالحسنات:وأولها: اطلاع صاحبها الواسع على تراث الأندلس ، فليس من السهل أن تَسْتخَرجَ هذه المعلومات الموزعة في ثنايا البحث من مجموع المكتبة الأندلسية دون أن تمر على غيرها من المعلومات المتعلقة وغير المتعلقة بموضوع البحث ، وهو ما فعله الباحث ادي ولد آدب ، بكفاءة مشكورة فقد كان له من الوقت والجدية ما يكفي لمطالعة مصادر تلك المكتبة ومراجعها ، وتوظيف معلوماتها في أبواب محددة ، وهي محمدة نشكرها له ، ونشجعها في الباحثين الشبان الجادين.

وثاني هذه المزايا : الأسلوب الأدبي الجميل الذي صاغ به رسالته ، وما يسنده من خيال واسع ، واختيار موفق للألفاظ غالبا ، وقد سبق أن عرفناه شاعرا فأضاف إلينا بهذه الأطروحة أنه ناثر مجيد أيضا.

أما ثالث هذه المزايا : فهي محاولته البرهنة على أحكام جريئة ساقها ، وخالف بها بعض الباحثين أحيانا ، فالجرأة على إطلاق الأحكام مذمومة من الباحث ، ولكنها حين تكون مدعومة بالأدلة والحجج المقنعة تستوجب التقدير والثناء).

وفي الأخير تدخل الأستاذ محمد مفتاح رئيس اللجنة ، شاكرا الأستاذة المشرفة على دعوته للاحتفال بهذه الأطروحة ، قائلا : إن ـ <الأستاذ الباحث الشاعر (ادي ولد آدب) ينتمي إلى مجوعة من الباحثين الموريتانيين، الذين أكرمهم الله بكثير من اللوذعية ، والذكاء ، والقدرة على التحصيل ، وميزة الإنصات ، واستطاعة الإنجاز ، والأطروحة التي نناقشها خير برهان على ما أقول ، فهي :

ـ أطروحة بكل معنى الكلمة ، حيث حددت إشكالا، ثم بينت كيف تسلك الطريق التي ستحل هذا الإشكال.

ـ الأطروحة ليست ادعاء ، وإنما قدمت البراهين عليها ، وأنها مبوبة تبويبا جيدا ، حسب ما ارتآه الباحث.

ـ أنها مصوغة بتنسيق وبأسلوب عربي مبين.

ـ أن القارئ يدرك بكل سهولة ويسر خصائص أخرى في الأطروحة ، من بينها شساعة الحقبة التي تناولها الباحث.

ـ الأطروحة - أيضا - قد بينت سعة الإطلاع، التي هي لازمة عن هذه الشساعة ، بحيث إنها تشير إلى عناوين تكون مكتبة ضخمة.

ـ لغة الباحث فيها أدب واحترام ، وثقة بالنفس ، والثقة بالنفس إحدى المكونات الأساسية للباحث المجيد. ، مشيدا في الختام ( بهذا البحث المحقق للإمتاع والانتفاع).

وقد تكللت المناقشة بحصول الباحث على تقدير : مشرف جدا،مع تنويه اللجنة بالجهد المبذول في الأطروحة.


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2011-12-02 16:44:15
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article176.html