نكبة كنكوصه..مات شريان الحياة.. من المسؤول ؟ (تقرير مصور)
وكالة كيفة للأنباء

سبب الوجود..

عندما اختار المستعمر الفرنسي تأسيس استقرار حضري بجنوب ولاية لعصابه في بداية الخمسينيات من القرن الماضي كان واعيا بضرورة أن يكون ذلك في نقطة ملائمة تضمن استمرار ونمو المولود الجديد وتمنحه فرصة الاستفادة من موارد معينة فجاء إنشاء المدينة الجديدة (كنكوصه ) على ضفاف تلك البحيرة الرائعة حيث الزراعة والصيد والشراب والسياحة وأكثر من ذلك.

نمت المدينة بسرعة وجذبت إليها هجرات من الريف فشكلت مشهدا نادرا في التنوع والتعايش و الاندماج الاجتماعي والحيوية فلعبت دورا بارزا في تشكل وتقدم الدولة الموريتانية.

وظلت بحيرة كنكوصه على مر الأيام شريان الحياة وأساس التنمية ومحل فخر واعتزاز السكان فصارت جزء من الذات و الوجدان والهوية .

الخبر الصادم..

لم يخطر على بال بشر في هذه المدينة الوديعة أن تأتي الأيام بالخبر الصادم فيستيقظ إنسان كنكوصه ذات يوم على البحيرة التي درج وترعرع على ضفافها وهي ناضبة وأن يصبح المرور بين المدينتين الشرقية والغربية مشيا على الأقدام عبر قيعان يابسة.

لقد حدث ذلك بالفعل هذا الصيف وجاءت المأساة وأضحت المدينة "الشاطئية " بلدة منكوبة بكل المعاني.

لقد توقع المهتمون والمراقبون ما حدث قبل ثلاث سنوات ، فعندما عملت عوامل مناخية على سد مصب وادي "آكمامين" وتوجيهه إلى كركور وعندما قرنت آليات شركة MTC ومشروع الخضروات الليل بالنهار وهي تستنزف البحيرة مع عامل تراجع الأمطار طالب هؤلاء بإعادة فتح الوادي باتجاه البحيرة وبوقف عملية الاستنزاف غير أن أيا لم يصغ إلى نداءاتهم فقد تخاذل ممثلو الشعب وغابت الدولة ولم يقم السكان بفعل ضاغط ذي قيمة فحلت الكارثة.

مات شريان الحياة بكنكوصه وانتفى سبب الوجود أصلا وبدا الأهل يتلاومون ويتساءلون عن الأسباب الحقيقية لهذا النضوب الذي لم يسجل مثله بعد جفافها في ذروة القحط الذي ضرب البلاد سنة 1973.

آراء المواطنين..

وكالة كيفه للأنباء فتحت هذا الملف والتقت عبر تحقيق صحفي أعدته قبل يومين بأطراف مختلفة للتعرف على أسباب جفاف البحيرة بهذا الشكل المذهل ورصد مجموعة من الآراء والمواقف حول تداعيات هذا المصاب الجلل على مستقبل المدينة.

الوجيه والفاعل الاجتماعي والسياسي الحسين ولد ثالول يرى أن توقف مياه لحرج هي السبب الحقيقي لجفاف البحيرة ، مضيفا أن ما تشهده اليوم لم يحدث بعد سنة 1973، مبرزا أن الكميات الهائلة التي يسقى بها مشروع الخضروات قد تكون ساهمت في التعجيل بالنضوب .

أما الخمسينية ديده بنت محمود رئيسة اتحاد تعاونيات مقاطعة كنكوصه فقد عبرت عن صدمتها ودهشتها العميقة لما حدث وقالت أنها لم تغادر كنكوصه التي ولدت بها ولم تر هذا المشهد المؤلم أبدا، وترى أن انحصار مياه آكمامين بالإضافة إلى شركة MTC هي أسباب النضوب وتحدث بنت محمود عن الخسائر المترتبة على هذا النضوب التي تطال الزراعة والصيد وتوقف العديد من الأنشطة التي تعيش عليها مئات الأسر وذكرت أنها أنذرت في وقت سابق مما حدث وأبلغته للجهات المختصة وطالبت ديده بالمبادرة بفتح "آكمامين" وتعميق البحيرة ومساعدة السكان على تجاوز هذه المحنة الخطيرة.

المعلم الشاب وأحد سكان المدينة المقيمين أحمد ولد الخليل يقول في ذات الموضوع:

40% من سكان مدينة كنكوصه يعيشون على ما يستخرجونه من سمك البحيرة وما يزرعون على ضفافها والسبب المباشر لنضوبها هو استنزاف شركة MTC لمياهها و كذلك سقاية مشروع الخضروات ينضاف إلى ذلك الانسداد الذي حدث عند بلدة "آكمامين"، وإذا لم يتم تعميق البحيرة وسد الفتحة المذكورة فلن يكون للبحيرة ذكر بعد اليوم"

أما الوجيه ماء العينين ولد محمد لبات فيرى أن كنكوصه اليوم هي مدينة منكوبة بكل المقاييس حيث عطشت المواشي والطيور وحيث انقطع رزق الصيادين والمزارعين وحمل المسؤولية كاملة لشركة بناء الطريق وطالب الحكومة بالتدخل العاجل.

ويشعر الصياد أعمر ولد دنب بالصدمة والمرارة من فقدان عمل مدر امتهنه أكثر من ثلاثة عقود وقد جلس على زورقه يقلب كفيه ويندب أيام عز البحيرة.

أعمر الصياد يدين الشركة فيما آلت إليه البحيرة ويرجو مساعدة عاجلة من الحكومة لمئات الصيادين الذين باتوا في مربع المجاعة.

مثله المزارع الكهل يحيى اتراورى الذي أحب البحيرة حبه لأبنائه وعلى ضفتها أقام مزرعة رائعة من الأشجار المثمرة والنخيل عمرت عقودا من الزمن ليصبح على قاع صفصف وهو اليوم يقوم بعمل حفر على جانب البحيرة للتمكن من إبقاء المزروعات حية حتى يأتي فرج الله.

اترواري يعيد المشكل إلى انحباس مياه "آكمامين" كما يري أن الوضع فاقمه أيضا عمل الشركة والمشروع .

وتكاد غاسلة الثياب المعيلة لعدة أطفال السيدة روكي موسى تبكي لهول الحدث فقد كانت تجمع الثياب من المدينة وتقوم بغسلها على الشاطئ وفي المساء تعود لقبض الثمن وبهذا تنفق على عيالها وهي اليوم لا تجد مياه لذلك. لقد صبت اللعنة على كل من تورط في جفاف البحيرة مصدر رزقها .

بدورها فاطمة بنت سله العاملة سابقا في شراء أسماك البحيرة من الصيادين وبيعها في المدينة تقوم اليوم بجمع آخر السمك النافق على الضفة مبرزة للوكالة ما ينتابها من قلق من ظروف قاسية تنتظرها في قادم الأيام إثر فقدان الوظيفة.

وعلى الرغم من الربح الذي صار يجنيه سائق التاكسي باب ولد علي بعد توقف الزوارق فقد شن هجوما لاذعا على المنتخبين وعلى السلطات وحمل هذه الأطراف ما آل إليه الوضع بالبحيرة. مدير موقع كنكوصه اليوم الصحفي: محمد ولد زروق يقول في ذات الصدد:

"ما تمر به بحيرة كنكوصه هو كارثة حقيقية ويشمل تأثيرها الحيوان والإنسان حيث فقدت عشرات الأسر مصدر دخلها الوحيد (الصيد –الغسيل - الزراعة) فيما تضررت عشرات الأسر الأخرى كانت تجد في مخرجاتها ملاذا من طاحونة الغلاء.

حيوانات تموت بفعل العطش وأسماك تنفق بالآلاف وارتفاع كبير في درجات الحرارة". أقوال الرسميين..

عمدة بلدية كنكوصه السيد بوندو ولد سيدينا ولد اخيار انتاج سألناه عن اعتقاده فيما يتعلق بسبب النضوب وما يترتب على ذلك من أضرار بالنسبة للمواطنين فقال إن انحراف وادي لحرج إلى كركور وتناقص التساقطات المطرية لخمس سنوات متتالية هو ما أدى إلى ما حصل اليوم ، وذكر أنه أبلغ الجهات المعنية بتوقعاته وتجاوبت معه حينئذ فأرسلت وزارة الزراعة بعثة للاستقصاء حول الموضوع وتمنى العمدة أن يكون هذا الخريف جيدا فتعود البحيرة إلى سابق عهدها.

وكالة كيفه للأنباء سألت السيد المختار ولد داداه رئيس مصلحة بوزارة البيئة وعضو البعثة التي زارت البحيرة للتحقيق فيما حدث فقال إن السبب الرئيس لجفاف البحيرة هو توقف المياه المتدفقة من لحرج وهو ما يستدعي قيام وزارة الزراعة بإزالة الحاجز وتسهيل تدفق المياه ثم إن كميات المياه التي تأخذها الشركة التي تبني الطريق وكذلك سقاية المشروع الزراعي بالإضافة إلى حديقة الأبقار كل ذلك - يقول المختار- جاء في الوقت غير المناسب مما عجل من جفاف البحيرة.

لقد كان ينبغي للشركة وللمشروع اتخاذ تدابير لمياه أخرى واليوم تحدث الواقعة وفي المستقبل يجب انتهاج سياسية مائية واضحة لحماية البحيرة والحياة بها.

الوكالة أيضا سجلت في وقت سابق رأي مدير شركة MTC

السيد داداه ولد سيدي حول الاتهامات الموجهة لشركته في التسبب في نضوب البحيرة فقال: "الكل يعرف أن هذه البحيرة تبدأ في التناقص كل صيف ولا أعتقد أن كميات المياه التي تسحبها صهاريجنا تؤثر على حجم البحيرة لاسيما أننا خلال الأشهر الأخيرة لم نكن بحاجة إلا للقليل ،ونحن مع ذلك استعملنا تلك المياه مضطرين ولمصلحة السكان الذين يدعون لنا بالخير كلما لقيناهم لأهمية هذا الطريق بالنسبة لهم.

لقد استجبنا للسلطات وسحبنا آلياتنا ونأسف لتوقف العمل لسبب لا يقنعنا ومع ذلك باشرنا التفكير في إيجاد بديل لاستئناف العمل.

هذه المواشي تذهب في كل اتجاه بحثا عن شربة ماء بالبحيرة دون جدوى وهذه الطيور تغزوا المنازل من العطش، أما مئات التماسيح والزواحف الأخرى ومختلف المخلوقات فقد اختفت إلى مستقرات ومستودعات الله وحده من يعلمها. المزارعون يصارعون من أجل الإبقاء على مزروعاتهم حية بحفر الخنادق والوهاد في البحيرة وآلاف رؤوس الماشية الداجنة بالمدينة أضطر أهلها لأول مرة في تاريخهم إلى إرسالها للريف ومئات الصيادين ينضمون إلى قوافل الجياع. مثلهم العشرات من معيلي الأسر الذين كانوا يعملون في نقل الأشخاص في الزوارق بين الضفتين، ولم تعد مدينة كنكوصه تجتذب أي سائح أو متنزه.

لقد أجمع كافة المواطنين بكنكوصه على أن انسداد الوادي الجنوبي وما فعلته الشركة والمشروع الزراعي قد دمر بحيرتهم عكس رسميين ووجهاء ومنتخبين مرتبطين "بالمخزن" يريدون تبرئة الشركة وتحميل السبب للجانب الطبيعي فقط.

حدثت الكارثة فلم ينبس أطر ووجهاء و منتخبو المقاطعة بكلمة واحدة وظهروا في هذه النكبة كأنهم ينتمون إلى عوالم أخرى وقد بلغ بهم موت الضمير إلى أن ارتموا في الاتجاه المعاكس وبذلوا جهودا مضنية من أجل إفشال الوقفات التي نظمها شباب شرفاء آمنوا بحب المدينة و أهلها وسخروا أنفسهم للدفاع عن حقوق ومصالح المواطنين.

طبيب بعد الموت..

عندما لاحظ السكان التدهور المتسارع للبحيرة في مستهل هذا الصيف توجهوا إلى حاكم المقاطعة وأطلعوه على الوضع وطلبوا منه توقيف MTC عن أخذ الماء من البحيرة واتخاذ تدابير عاجلة لتحاشي الكارثة فلم يولي أي اهتمام لهذه المطالب وظل غير مكترث حتى يبست آخر بركها وهناك كان طبيبا بعد الموت إذ أمر الشركة بالتوقف عن التزود بالماء من البحيرة "اليابسة" في خطوة متأخرة تبتعد كل البعد عن تحمل المسؤولة..

لقد أظهرت الإدارة و المصالح البيئة والزراعية الكثير من العجز واللامبالاة أفضى في الأخير إلى ما وصل إليه الأمر من تعقيد، وسوف يكون سكان مدينة كنكوصه على حق إذا طالبوا الجهات المتورطة في جفاف البحيرة بالتعويض عن الخسائر المادية الهائلة التي تكبدوها.

ليست هذه مدينة كنكوصه.. !

تقف مدينة كنكوصه اليوم في منعطف تاريخي خطير، فلن يجني المواطنون بعد جفاف البحيرة من غلاتها وخيراتها المتنوعة ،وهو ما سيؤدي إلى حدوث مجاعة في صفوف مواطنين يواجهون أصلا ظروف قاسية إلى أبعد الحدود.

لن تداعب هذا الصيف سكان المدينة النسائم العليلة لتلك البحيرة الجملية ولن ينام الناس على ترانيم البلابل وزقزقة الطيور السعيدة بنعمة البحيرة، ولن يستنشق أهلها اليوم روائح الورود والزهور العبقة المنطلقة من جنان البحيرة ولن يتمتع أي منهم بالنظر إلى مياهها الزرقاء النظيفة تحت ضوء القمر و تلألئها وقت الشروق والغروب وهي تفصل في منظر مهيب بين الضفتين.

هي أيام أخرى مع الأوحال والطين والغبار المتطاير ومع روائح جيف الأسماء والحشرات المنبعثة على أنقاض البحيرة،هي أيام أخرى مع الشجون و ذكريات البحيرة وما تحكيه الجدات للأطفال عنها. !

لقد تخاذل ممثلو الشعب .. لقد غابت الدولة فمات شريان الحياة وانقضى سبب الوجود.

كان الله في عون أهلنا في كنكوصه وأعاد إليهم بحيرتهم باليمن الخير والبركات وسحقا لإهمال الدولة وتخاذل المنتخبين وتآمر الساسة.

مندوب وكالة كيفه للانباء إلى البحيرة مع أحد المزارعين

نسوة يغسلن الثياب من حفرة على ضفاف البحيرة النابضة

أ

في هذه الحفرة كانت MTC تضع أجهزة شحن الصهاريج

أحد الأنابيب التي كانت تصب مياه البحيرة في المشروع الزراعي

جانب من البحيرة

جانب من البحيرة


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2016-06-30 08:05:00
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article14727.html