الصفحة الأساسية > الأخبار > كيفه من معطن إلى مركز/ الدكتور محمد المختار ولد سيد محمد

كيفه من معطن إلى مركز/ الدكتور محمد المختار ولد سيد محمد

الأحد 7 كانون الثاني (يناير)  17:00

في هذا الجزء نتناول "كيفه من معطن إلى مركز" من محاضرة الدكتور محمد المختار ولد سيد محمد المعنونة ب " كيفه في ذاكرة التاريخ"

كثيرا ما أحيطت روايات تأسيس المدن بجدل كبير مرده اعتماد المصادر الشفهية، واختلاف المرجعيات، والو لاءات اللاحقة، في نظام قبلي بامتياز، وكثيرا ما اختلف في تأصيل التسمية تبعا لذلك، ومن هنا لم تكن كيفه بدعا من تلك المدن التي تتضارب الروايات بشأن أصل تسميتها، وإذا كان البعض يحاول ربط ظهور الاسم بأحداث تأسيس المركز مستندا إلى قصة الحفار الذي كان يردد عبارة كيفه كيفه في سياق إشعار الفرنسيين أن البئر الثانية هي مثل سابقتها في الملوحة، فإن الشواهد التاريخية تؤكد قدم التسمية، وإن اختلف المسمى، وتقول الرواية الشعبية إن شكل الوادي هو مصدر التسمية لأنه يشبه في تعرجاته (الكيفه) التي هي عبارة عن ألياف مضفورة من جذوع الأشجار تصنع منها الحبال.

وقد وردت في المدونات المحلية، و الكتابات العربية، وفي مذكرات القادة العسكريين الفرنسيين وفي خرائطهم.

ولعل أقدم إشارة إليها، وصلتنا، كانت للشاعر سدوم ولد انجرت في سياق تحديد المجال الغربي لإمارة أولاد أمبارك ، حيث يقول:

كرو وكنديكه وبزار*************** وكامور أهذا ك المطراح أكيفه واسويح فنوتار**************** وولول ووهام والبحباح وكرني وامحاوز لبيار*********** ذوك أديار أولاد الفحفاح

ويعاود الحديث عنها مرة أخرى، في سياق مرثية فارس أولاد لغويزي سيد أحمد ولد امحمد، دفين سور ملي حين يقول:

كفات ظرك العربي ************* خلات في الخط الكبلـــي قلظ اسمع والمزي ************* فامسيلت سورملي ابكات كيفه ووطنه ************ م سايــــل امنادم عنه وانتاكات أمعطنه ************ ولا ورد جاهم مدلــــي أذيــــك ما نل عنه ************** ابكات وابكات تكبه ونعلي

و ذكرها صاحب الوسيط بقوله إنها: ’’إنها بئر مشهورة ماؤها مالح، وهي من مناهل الإبل التي تنعم بشربها فيكثر لبنها، وهي ملقط عظيم للصمغ’’.

وعرفها الباحث اللبناني محمد يوسف مقلد قائلا:’’ إنها بئر مشهورة، ماؤها مالح وهي من مناهل الإبل التي تنعم بشربها، ويكثر لبنها، وهي ملقط عظيم للصمغ، وأمراؤها من أهل سيد محمود’’.

وأشار إليها فرير جانه في كتابه:ESSAI HISTORIQUE قائلا ’’إن الفرنسيين هم من أطلق اسم كيفه على أحسي باب نهاية سنة1906’’، دون أن يفصل الحديث عن السياق العام، وذكرها مؤلف موسوعة موريتانيا المختار ولد حامدن’’ كمعطن من معاطن أرقيبه، ومسرح لمعركة بين أولاد غيلان وأهل احجورسنة 1911’’.

وأفرد لها الأستاذ إسلم ولد محمد الهادي مبحثا موجزا في كتابه الموسوم موريتانيا عبر العصور، لا سيما الجزء الثاني الذي عقده لتاريخ الولاية، مرجحا الفرضية القائلة إن التسمية قديمة ومعتمدا المنحى اللغوي في اشتقاقها .

ثالثا: ظروف تأسيس المركز

تلاحقت الأحداث بعد مقتل كبولاني يوم 12 مايو 1905 في تجكجة، وبعد أن ضرب الحصار على هذه القلعة، فبادر الفرنسيون إلى اعتماد أسلوب الغزو المسلح، وسياسة الأرض المحروقة بدل الحيلة والمسالمة، وكان لا بد للقادة العسكريين قبل التوغل شمالا إلى آدرار أن يؤمنوا خطوط الإمداد العسكري من محطات النهر، وخطوط التموين القادم من انيور، لاسيما أن الاستخبارات الفرنسية أكدت أن أغلب القيادات القبلية في لعصابة قد اشتركت في معركة انيملان، ثم تفرقت في آفطوط وأفل وجبال لعصابة مما يقتضي مراقبتها، ورصد حركتها من مراكز قارة، والحد من نشاطها. وفي هذه الظرفية الخاصة بدأت قصة تأسيس المركز، والتي لخصها الرائد ديفور في مذكراته التي سماها تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا، بقوله:

" بينما كانت النجدات تتجه إلى تجكجة كان الرائد آرنو يزحف بستين من الجمالة، وسرية من رماة الكتيبة السنغالية من انيور إلى كيفه وهي نقطة المياه الهامة الموجودة في أرقيبه على بعد ثمانية أيام إلى الجنوب الشرقي من تجكجة، وكان الهدف من هذه العملية بذل ما هو ممكن لمنع قبائل أرقيبه من الانضمام إلى الشريف، وقد وصل الرائد دون مصاعب إلى كيفه في الأيام الأولى من دجمبر"

إن قراءة متأنية لهذه الشهادة تجعلنا نحكم باطمئنان بأن الهاجس الأمني كان في مقدمة دواعي الـتأسيس، ثم إن النص لا يخلو من عبارات لها دلالة، لا سيما أنها تصدر من قائد عسكري يعي ما يقول، فالنجدة تعني أن الفرنسيين كانوا في حالة انكسار، وعبارة بذل ماهو ممكن ليست من مألوف القاموس العسكري الذي يميل إلى الحسم أكثر من التردد والواقعية، والشريف الذي يشير إليه القائد الفرنسي هو مولاي إدريس قائد معركة النيملان، والذي انعقد عليه لواء المقاومة في تلك المرحلة.

والواقع أن الموقع الذي حطت به الكتيبة بعد تلقيها تعليمات الإقامة لم يكن سوى البئر المالحة التي تضمنتها الشهادات التاريخية السالفة، مما دفع القائد أرنو إلى الانزياح شرقا إلى موقع كان يعرف بأحسي باب، في منحنى الوادي حيث مظنة الماء الشروب، والصلصال الصالح لعمليات البناء، والموقع الاستراتيجي بين التلال الرملية والمرتفعات الصخرية وكأن المركز يحتمي بالجغرافيا من بطش الظرفية التاريخية حين تأسس يوم 01 فبراير سنة 1907، أي بعد مرور شهرين على وصول الحامية الفرنسية إلى بئر كيفه المالحة، وتطبيقا للتعليمات التي تضمنتها البرقية المرقمة354 والمؤرخة في 26دجمبر 1906.

وقد تضمنت رسالة حاكم السودان الغربي إلى الحاكم العام لغرب إفريقيا المرقمة 406 والصادرة بتاريخ 12 يوليو 1907، تضمنت بعض الإشارات إلى دواعي التأسيس وقد عدد منها:

-  أن منطقة أرقيبه أصبحت ملاذا آمنا لتجمع القبائل المعادية بعد أحداث تكانت

-  انتشار السلاح في أوساط القبائل المتمردة في هذه المنطقة

-  الأهمية الإستراتيجية لارقيبه في أوقات السلم والحرب, وكونها استكمالا للخط البري الرابط بين مركز نواكشوط ومدينة تيمبكتو.

وأشارت الرسالة إلى أن مزايا الموقع الجديد تستوجب تعزيز الحامية العسكرية فيه بمزيد من المدد، والعناصر الفنية والإدارية في أسرع الآجال. وإذا ما استنطقنا الذاكرة المحلية، بشأن مشهد التأسيس وجدنا بعض الإشارات التي لا تخلو من دلالة ومنها ما جادت به قريحة الأديب سيد محمود ولد باحمد، غداة تأسيس المركز مطلع سنة 1907حين قال:

على سقطار إذ وقفت غديـــــة **********علمت بأن الله ذا العرش قــــــادر يساري ذو الأمطار والفرع خلفـه******** وذو مطر من بين ذينك ظاهــــــر وباب على اليمنى يراه الذي رنـــا ********به الروم حول الخندريس تسامــــروا فهذي بلاد الحي ملكا كان آمـــــنا *********** له الفخر دون الورى والمفاخــــــر فلما بدل الربع المحيـل بمقلــــة****** **وجال افتكا ر والدموع تناثـــــــر تذكرت قول الجر همي إلى الصفـــا********أنيس ولم يسمر بمكة ســــامــــر بلى نحن كنا أهلها وأبادنــــا ***********صروف الليالي والدهــــــور دوائـر

ولسنا هنا بصدد الحكم على القيمة الأدبية للنص الذي يثير الشجون ويستحضر المغاني، والدمن الدوارس، ومرابع الأحبة، وذكريات الزمن الجميل، بل إن اهتمامنا يتمحض للقيمة التاريخية للنص، باعتباره شهادة يتيمة تتضمن إشارات ذات مدلول خاص، وحمولة رمزية لعل أهمها تحديد الموقع من خلال حصر المعالم المحيطة به من جنبات الوادي، وإشارته إلى الفرنسيين ووصفهم بالروم وكأنه يتفاءل بأنهم سيغلبون هذه المرة.

عندما وضع الرائد آرنو حجر الأساس لمركز كيفه في الموقع الجديد لم تكن الساكنة تتجاوز أسر بعض المجندين في الحامية، ثم مالبثوا أن انضم إليهم بعض التجار المنحدرين من أوساط مدينة انيور ، ممن كانوا يبيعون للحملة أقواتها، وقد اقتضت دواعي الاستقرار أن تسند رئاسة الكصر إلى السيد يوبا سيلا ليكون عنصر ارتباط بين الإدارة الفرنسية من جهة والقيادات القبلية المحلية من جهة أخرى ومن المهام المسندة إليه:

-  تمثيل القرية لدى الخوبه

-  جمع الضريبة الشخصية

-  عضوية مجلس الأعيان

-  تنظيم عملية لبرة تمهيدا لإقامة مدينة الحرية

ورغم أن دائرة التكليف الإداري لهذا الرجل كانت تضيق وتتسع تبعا لتطور المركز من جهة، ومستوى تعاطي المجتمع الأهلي مع النسق السياسي الجديد من جهة أخرى، إلا أن الذي لاخلاف فيه أن هذه الوظيفة قد انتقلت من بعده إلى ابنه التجاني سيلا وظلت باقية في عقبهم إلى سنوات الاستقلال وقيام الدولة الوطنية، ومن الأسر القديمة في المركز أسرة مودي كامارا، وأسرة اسرماقا كيتا، وأسرة آل افافانا ذات الوزن العلمي المحسوس.

ورغم العزلة التي عاناها المركز في سنوات التأسيس بفعل مقاطعة السكان المحليين، في مرحلة أولى، وتهيبهم في مراحل لاحقة إلا واقع الاحتلال، والضرورات الاقتصادية، وطبيعة الحراك الاجتماعي قد فرضت نوعا من التعايش، اتخذ في البداية شكل علاقات غير مباشرة تمثلت في ظاهرة المصاهرة بين بعض أفراد الإدارة الفرنسية وأعوانهم التراجم وبعض الإماء اللائي كن في خدمة شيوخ القبائل ولهن حظوة خاصة لدى هؤلاء الشيوخ مما ساهم في انفراج العلاقة بين المركز والأطراف.

وفي مرحلة لاحقة تعززت العلاقات الاجتماعية بين الساكنة الأولى للمركز بدخول التجار البيظان على خط المصاهرة حيث تزوج أغلبهم من بنات آماليز مما عزز اللحمة الاجتماعية في المركز، وساهم في تفعيل الحراك الاقتصادي، وتقويته وارتسمت ملامح عقد اجتماعي ثلاثي الرؤوس يجمع علية القوم من أساطين المؤسسة التقليدية التي تدير المجال، ومسيري الشأن المحلي في النسق الإداري الجديد، ورجال المال والتجارة الذين يسيرون الأقوات في مرحلة بدأ فيها المجتمع يرتبط بالسوق الرأسمالية بمغرياتها التي تحولت، مع الوقت،من كماليات لدى الخاصة إلى ضرورات لدى العامة.

لقد أدى الحراك الاقتصادي والتحول السكاني إلى نوع من الفرز الاجتماعي الجديد كان من أبرز مظاهره إضافة مكونة جديدة إلى مجتمع لعصابة هي مجموعة جامبور المركز و هم في أغلبهم من صميم التركيبة التقليدية و إن اختلفت تموضعاتهم الاجتماعية.

غير أنهم قد انسلخوا من العباءات القديمة مشكلين عنصرا فاعلا و شريكا للإدارة الفرنسية في تسير المركز دون آن ينبتوا من محيطهم التقليدي إلا في حدود ما يقتضيه التمدن، و يعنى هذا المفهوم المركب( جامبور) في القاموس الولفى (خدم الإدارة) غير أن دلالته الاصطلاحية لا تحمل أية نبرة قدحيه، فخدمة الإدارة في ذلك السياق تقرب صاحبها إلى مركز القرار، ربما أكثر من غيرها من المراتب الاجتماعية في البنية التقليدية للمجتمع.

ثم إن مصطلح جامبور قد تطور مع الزمن ليحيل إلا أهل الحضر من المقيمين ليميزهم عن أهل الوبر من الظاعنين، واتسمت هذه المكونة بقدر كبير من الانسجام يختزل الأطياف القبلية في هوية جديدة تمثل ثقافة واحدة، وتتصف بالتنوع الذي يكرس الوحدة وتعكس قدرا كبيرا من الوعي و القيم المدنية.

رابعا: أهم محطات التطور الإداري للمركز: الحلقة القادمة بإذن الله

1 مشاركة

  • سرد تاريخي جميل ومتميز !
    غير أني لا أوافق الكاتب على المعنى الإصلاحي الذي أعطى
    لكلمة "جانبور" عندما قال إنها تعني خدم الإدارة
    وإنها تدل على مجتمع مختلط يتميز بالوعي والتحضر!!
    فالمعنى الإصطلاحي الذي استقرت عليه هذه الكلمة والذي
    يتبادر إلى الأذهان عند سماعها مختلف تماما عن ماذكره الكاتب
    فالكلمة معناها يرادف "الآبقون" وامجنبر معناها:آبق أي أنها تحيل إلى تلك الجموع البشرية التي هي بالأساس من شريحة
    الأرقاء السابقين الذين تمردوا على أسيادهم وعلى النظام الاجتماعي الطبقي فتنخلوا من المجتمع فرادى وجماعات
    واحتموا بذالك المركز وشكلوا نسقا مجتمعيا خاصا بهم عرف
    بجانبور وأصبحوا مع الوقت مأوى وحضنا دافئا لكل المتمردين على النظام الاجتماعي القائم.

    جانبور إذن هم المتمردون من الأرقاء السابقين
    وربما التحق بهم بعض من يشعرون بظلم أو غبن اجتماعي ما

    الرد على هذه المشاركة

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016