1\ الانطلاق : انطلقت إلى كيفة بعيد صلاة الفجر ، ب(الألمانية) التي أعددتها للرحلة ، تبعد المدينة عن مقطع الأحجار 225 كلم ، و قد لاحظت آثار المطر بين صنكرافة و اتويجكجيت و في كرو .

تجعلك رياح الصبا المتسللة إلى داخل السيارة تستحضر جمال النغم مما جعلني أجهر بالتلاوة ، لما تسير من القرآن العظيم ، و على امتداد البصر تنتشر تضاريس المقاطعة منبسطة كأنما بدافع التواضع ، باستثناء كديات مترامية في جنبات الطريق ، حيث يراود جيرانها حلم اكتشاف الذهب ، و تصر شجيرات السمر على الاصطفاف على الطريق قبيل حدود المقاطعة ، و كأنها تقيم مراسيم توديع..

2\ أشرم : عندما تصل إلى أشرم يزاحمك التاريخ ، و تتسابق إلى مخيلتك صور من نشأة إمارة إدوعيش على يد ﺧﻮﻥَ ﺍﺑﻨﻪ ﺍﻣﺤﻤﺪ ﻭﻝ ﺧﻮﻥَ و تقفز إلى ذهنك صور من أيام ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻳﺪﻭﻋﻴﺶ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ ﺍﻣﺤﻤﺪ ﺷﻴﻦ ﺑﻦ ﺑﻜﺎﺭ و أيام " ﺁﺭﺯﺍﮒ " و " ﻟﺤﻨﻴﻜﺎﺕ " ، ثم انقسامات الإمارة إلى " ﻣﻜﺰﻭﺯﺓ " ﻭ " ﺑﺨﻮﺍﮔﺔ " ، ثم إلى ﺍﺑﻜَﺎﻙ و ﺍﺷﺮﺍﺗًَﻴﺖ

و تقفز صورة الشاعر التندغي ليقول :

إنا بنو تندغ قد بانت لنا الغلبه ....على الزوايا بعلم وافر الطلبة

ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻋﻤﺎﻣﻨﺎ ﻓﺮﺳﺎﻥ ﻣﻠﺤﻤﺔ .... ﻳﺪﻋﻮﻥ ﺑﺎﻟﻜﻨﺪﺭ ﺍﻟﻤُﺴﻮﺩّ ﻭﺍﻟﺪﺑﺒﻪ

ﻛﻢ ﻋﺎﻗﻞ ﻳﺒﺘﻐﻲ ﻣﻨﺎ ﻣﺴﺎﻟﻤـﺔ ... ﻭﺍﺣﻤﻖ ﺟﺎﺏ ﻣﻨﺎ ﻟﻪ ﻋﻄﺒـﻪ

و طوال الرحلة لن يفارق خيال سمعك رسم أحمدي ولد بكار ، على لسان أب الشعر الحساني سدوم ولد انجرتو... عبرت أشرم و أنا أعبر حلقة زاهية من تاريخ جزء مميز من الوطن ، لكن الأخبية المتناثرة لسكان البادية تجعلك تشعر بالأسى على سكان يعتبرون من أفقر سكان المنطقة ...

3\ الغايرة : قبل توديع تكانت تفاجئك هضبة آكرراي منتصبة القامة كالجندي ، و سنتنبهر لا محالة من سحر المنظر ، و تخيل طريقة الوصول إلى القمة .

و ما إن تفارقك دهشة المنظر حتى تترأى لك هضبة (الغايرة) تتصورها في البداية عاصفة على وشك الوصول ، لكنك ستتلمس مظاهر الحياة في الأشجار التي ترصع بعض جوانبها ، عندما تدخل المدينة تبهرك بكثرة متاجرها و حجمها ، و نشاط سكانها ، و لقد تساءلت لماذا لا تكون هي أول المطالبين بتحويلها إلى مقاطعة..

في الغايرة تمتزج حضارة آفطوط و تكانت و لعصابة مكونة فسيفساء اجتماعية جميلة ، و قد استقطب التنوع البشري و الشعور بالأمان مستثمرين من كل مناطق الوطن..

سبق أن بت في الغايرة ، و لا أنسى الالتحمام الكبير بين الزناد و المداد ، فقد كان مضيفنا مدرسا لكن الفيرندا كانت تستقطب مدفعين.

4\ رحلة الصعود..

عندما تصل إلى (جوك) فإن الاستمتاع بجمال المنظر ، تغير مواقع الهضبات ، بالنسبة للناظر و كأنها تحاكي كرة القدم ، أشجار (آزكلم) التي تزاحم النخيل ، و الفجاج التي تشرف عليها الجبال ، كل هذا الجمال يتحول إلى حالة خوف و أنت ترى المستوى المائل ذو الجيب الكبير ، و سوف تستحضر كل الأدعية و كل التعليمات الشرعية في هذا المجال (كنا إذا صعدنا كبرنا و إذا نزلنا سبحنا) ..

ينحرف الطريق بقوس صغير ترى الهاوية من ورائه فتمسك عنها بصرك بقوة ، و تبدأ رحلة التسلق التي يرافقها التكبير و تصبب العرق و اضطراب الأطراف ، و لكن العقل يقنعك أنك مثل الآخرين الذين مروا منه هنا و يرمون كل يوم ، و تقتنع أن الشجاعة لا تعني عدم الخوف و إنما القدرة على التحكم فيه ، و فور الاستواء تنطلق تباشير النجاح في كل أنحاء الجسم ..

5\ كامور : إذا كات من حظك أن تمر من كامور فعليك ألا تفوت فرصة التمتع برؤية (البطحاء) و (الجسر) و كيف تدفق هذا الجمال الآسر ، و كيف امتزجت التضاريس بأنواعها ، و مكامن السحر.

النخيل و الكدى و الكثبان ، المرتفعات و الوديان السحيقة ، الينابيع و شجيرات الحناء ..

جسر كامور من أجمل الجسور التي رأيت بأم عيني ، و يمر الجسر فوق وادي من أجمل الوديان ، و يحتضن كامور مجتمعا عريقا عرف بقوة الشكيمة و الكرم و الأريحية و البأس ..

6\ كرو : عندما ترى بوابة كرو فإن أبيات المختار ولد بونه سوف تبادرك :

ونحن ركب من الاشراف منتظم

أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة

بها نبين دين الله تبياينا

صورة كرو ناصعة في كل الأذهان ، العلم و الفتوة و صلابة الرجال ، مناظر جميلة و مباني فارهة تعكس قوة الرجال و توفر المال ، فعلى الرجل هنا أن يكون غنيا أو يموت ، تتسربل كرو بواحات النخيل ، و بالوديان الجميلة ... في كرو يتعلم الوليد:

من كل فن تعلم تبلغ الأملا ... ولا يكن لك علم واحد شغلا

فالنحل لما رعت من كل يانعة ..... أبدت لنا النيرين الشهد و العسلا.

أنجبت مقاطعة كرو العلماء المشاهير مثل آبه ولد اخطور ومحمد الأمين ولد أحمد زيدان، ومحمد المختار ولد أحمد مزيد، وأحمد ولد مود، والإمام أحمد زيدان ولد الشواف، وعبد الله ولد الإمام، ومحمد يحي ولد الشيخ الحسين وأبناء مايابى وبيدر ولد الإمام..

و أنجبت الرجال الذين مخروا الدنيا في إفريقيا و أمريكا و المشرق و المغرب ..

تستقبلك كرو بوداعة و هدوء شأن الخريدة المرابطية المليحة ، و تغادرها و أنت تنظر إلى الخلف لأن الصور لم تكتمل و لأنه لازال هناك ما يثير الانتباه..

7/ كندره : عندما تدخل كندر فإن (عراي اسروزي) سيملأ خيال سمعك ، ممزوجا بأزير الرصاص و حمحمة الموريات قدحا و المغيرات صبحا ، و سوف يتملك الحماس و أنت تتخيل فوارس (صنهاجة) ، و تاريخا عريقا من الشهامة العربية التي صقلتها المواهب الفطرية ، و الالتزام الديني الذي يحرس الأخلاق.

كندرة هي البوابة الغربية لكيفه ، و كأنما قيل لكل قادم هذه محطة من محطات تاريخ كيفة و حاضرها التي عليك أن تتعرف عليها..

8/ في كيفة ...

كيفة مدينة كبيرة عامرة ، تغص بالحاضر المكتنز بالصور و تفخر بماض مشبع بالفضائل .

لن يصدق أي أحد من سكان كيفة أنني جئت مطالبا بحق تم غمطه من هنا ، و بأمر من هناك ، لأن أهل كيفة تعودوا على الريادة و التميز .

عندما تدخل المدينة تترأي صور الماضي التليد ، المنازل الفخمة و الرجال الأشداء ، و حرائر الجياد و ذوات الزناد و الأفنية الواسعة الممتدة ، و العلم و العلماء و الصلاح و النسك و التهجد و التلاوة.

و تقفز إلى مخيلتك صورة الولي الصالح لمرابط سيدي محمود و طلبته و زاويته ، و أبائه و مريديه ، و تتصارع على الذاكرة صور فرسان الحمى و رهبان الليل ، و قوة الحضور و التأثير .

عندما تدخل كيفة تتذكر العلماء و المحاظر و الحضرات الصوفية ، لن تغيب عن مخيلتك الشيخ محمد سيدي يحيى و هو يعظ و يدرس بأسلوبه المميز ، و صورة القائد المميز ، الرجل الثابت الخطى الرزين الوقور الرئيس المصطفى ولد محمد السالك وصورة و صورة الفارس الصنهاجي الفذ أحمد ولد بوسف ..

عشرات السياسيين و الشخصيات ذات التأثير الوطني ، و كبار الكتاب و الأدباء و جيل من الرعيل الأول من بناة الدولة الحديثة..

و في حي القديمة يرتسم معلم يعكس صورة المجتمع الحديث الذي تختفي فيه الطبقات و الانتماءات الاجتماعية ، و يتوحد أبناؤه في الانتماء للوطن..

لن تستطيع عجالة لمدون منبر وصف كل شيء ، لكنها وجبة خفيفة في انتظار المزيد.