الصفحة الأساسية > الأخبار > تصدع اجتماعي منذر

تصدع اجتماعي منذر

الخميس 30 آب (أغسطس) 2012  15:01

عبد الفتاح ولد اعبيدنه المدير الناشر لجريدة "الأقصى"

تكررت حالات الإنتحار وتزايدت حالات الاعتداء، الذي يصل إلى القتل، وأخيرا في العشر الأواخر من رمضان، أقدم شخص غريب على ذبح أبنائه الأربعة، ورغم هذا كله لم يعلن المجتمع حالة الطوارئ، خصوصا في جانبه الرسمي على الأقل في خانة التساؤل والاستفهام، بحثا عن تفسير مقنع، ما الذي يتسبب في كل هذا التلاعب بالأرواح، ولماذا وصلت القلوب والنفوس إلى هذه الدرجة من اليأس والقسوة؟..

أجل، لقد نهى الله عن الإقدام على قتل الولد خشية الإملاق والفقر، كما حذر سبحانه من اليأس والقنوط رابطا بينه وبين الكفر: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"، فماهي الأوضاع المعنوية أو المادية التي أوصلت بعض أفراد مجتمعنا المسلم إلى فقدان الأمل ووضع حد تام لحياته أو حياة غيره؟.

سؤال كبير صعب يجدر بالنخبة بحثه وفحصه والتوقف عنده، بجد وموضوعية وتجذر وإصرار. غير أن هذه المصائب المتتالية، لم تثر سوى كتابات محدودة عند بعض الكتاب الصحفيين الشباب، دون أن يصل الأمر إلى ورشة تأمل جماعي، أو كتابات من مستوى رفيع، تعطي هذه الأحداث المثيرة مداها من ردة الفعل الملائمة اليقظة.

أما النظام الاستثنائي القائم بطبيعته الساذجة المتغافلة، فلم يول الأمر ما يستحق على الإطلاق.

ورغم ما وقع من سوء تسيير في عهد معاوية، بسبب الحرص على الثراء الشخصي غير الشرعي، على حساب الأهداف التنموية المرسومة، إلا أن كثرة الفرص للحصول على الرغيف أو بعضه، وتزايد التمويلات الخارجية ظل مصدرا لأمل ملموس منع طغيان مشاعر التخاذل والقنوط عند الأكثرية.

وفي عهد عزيز، عندما امتنع عن التخلي عن الحكم، وإمتنع عن إشراك غيره في منافع الحكم، وصل بالناس اليأس والقنوط من تحسن أحوالهم نحو الأفضل إلى تصرفات غريبة على الذوق الإنسابي الطبيعي، تجاوز رأفة الحيوانات بأولادها وذراريها، مما ينذر بإنفجار إجتماي وشيك -لا قدر الله- إذا لم نتدارك جميعا الخلل المتفاقم الخطير، ونحاول وضع اليد -بحزم- على مصدر التفكك الأخلاقي المتسارع المدمر.

إن شعور المواطن الشريف بالغبن من ثروات وخيرات بلده، وسهولة الاعتداء على حرماته وكرامته، وضياعه وسط الاختيار الحرج بين الفاقة أو الديون أو التسول، جحيم لا يطاق، قد يدفع إلى أي فعل غريب شاذ.

لقد حدثت كل هذه المصائب التي تهز كيان المسلم، بل كل نفس حتى من غير المسلمين، إلا أن مستوى التنديد في منابر المساجد وحلق التعليم الدعوية، رغم قلتها كان دون مستوى هذه الفظائع والموبقات المتكررة، فأين دور العلماء والموجهين عموما في درء بقية هذه السلسلة من الجرائم والجنايات الشنيعة المخيفة.

أليس من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا؟.

قسوة تستدعي التساؤل، وجرائم تحير العقول، فلطالما رأينا المجانين يحرصون على حياة أولادهم وحياة أنفسهم -ولونسبيا-، ورغم كثرة استعمال الخمور والمخدرات في بعض المجتمعات الأخرى، فالأمر لم يصل بالضحايا -في كثير من الأحيان- حسب ما يحصل مسامعنا إلى ما وصلت إليه حادثة عرفات المروعة.

فمن أين نبعت وانبجست هذه القسوة القياسية، بالمقارنة حتى، مع طبائع النفوس الحيوانية غير الإنسانية، إنه وضع اجتماعي يتطلب البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا الانهيار الاجتماعي المتواصل، فلاشك ثمة اختلال واسع أفرز مثل هذا التصدع المنذر بما سواه، مما هو أخطر وأدهى لا قدر الله.

ومن البديهي أن لتراجع نظامنا الإعلامي الرسمي، وعدم جاذبيته، نتيجة التزلف المستمر للجهة الحاكمة، أيا كانت، وتراجع وضعف نظامنا التعليمي والتكويني، كل هذه التراجعات إلى جانب قلة العدالة في الإدارة وتسيير الشأن العام، وشيوع نظام النفوذ المافيوي وهيمنة فريق الحاكم على حساب إعتبارات العدل والانصاف، وخصوصية منح الاراضي والأموال والمشاريع.

أجل، هذا الفشل الجماعي على كل صعيد تقريبا، كرس الشعور بالغبن والظلم، وغياب الشعور براحة العدل وتسيير الأمور من قبل من يختار الناس، لأن هذا الإختيار مسدودة أمامه الأبواب، بسبب تزوير الانتخابات وإستمرار جوقة الانقلابات منذ 1978 وإلى اليوم، ولا صوت فوق صوت البندقية والمخابرات والإدارات المتتالية الراضخة لإرادة الثكنات.

ولولا بعض دين وصبر وتضامن اجتماعي متناقص، لحدثت فواجع أكثر يندى لها الجبين.

إن الناس يجوعون في صمت ويموتون في سكون وإستسلام، ولا خوف من العار أو الحق أو الضمير إلا لماما، والسواد الأعظم يسير في موكب التيه والضياع نحو المجهول.

إننا جميعا مدعوون إلى محاسبة أنفسنا قبل فوات الأوان، أو تكرر المآسي وخروجها من دائرة الاحتواء النسبي الراهن.

إن أمن الناس وأموالهم ووجودهم في خطر دائم قد يصل إلى مشارف إفلاس قيمي شامل منذر، بتمزيق مجتمعنا.

فالملاحظ لمستوى التعامل والتخاطب البيني (بالنسبة للأفراد)، والأسلوب السائد في الأسر (من إهمال الآباء لأبنائهم وعقوق الأبناء للوالدين).

وتفشي البذاءة وعدم اللامبالاة، كلها مؤشرات أزمة أخلاقية خانقة تشير إلى ضعف البنية الاجتماعية، وما قد تعانيه من هزات زلزالية، أصبحت عنوان مرحلة جديدة، تحتاج إلى تحري مصادر الانحدار الأخلاقي المفزع، عسى أن لا تحدث مفاجآت أكبر وأخطر غير محسوبة.

لقد كانت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخلاقية بالدرجة الأولى (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

وأحتسبت الأخلاق الحسنة، هي صمام الأمان في التفكير العربي، نثرا وشعرا، قديما وحديثا.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ولقد أكد حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم المكانة الخاصة لأصحاب الأخلاق العالية: "أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"، الموطأون أكنافا الذين يالفون ويولفون. رواه مسلم

أما اليوم، فما عادت الأخلاق النبيلة مشغلا تربويا ولا مكسبا جوهريا يحرص الناس عليه، مقابل ما يظهرون ويبطنون من حرص على الماديات على حساب المعاني والقيم.

فإلى أين نسير؟.

ولتكن هبة عامة للتذكير بالفضيلة والقيم، ووشائج الروابط الإيجابية بين الناس، وإلا فإن الأمور ستؤول -لا قدر الله- إلى مسار جماعي غير محمود، غير قابل للسيطرة والتوجيه.

ونحن حقيقون بترديدها، لقد اختلت العلاقات الإنسانية عند بعض أوساطنا، فأين حنان الآباء وحرصهم على حاضر ومستقبل أبنائهم، وأين برور الأولاد بآبائهم، واستعدادهم حين تواتي الفرصة لرد الجميل، وإستمرار اللهج بالدعاء-يوما ما بعد رحيلهم- "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".

إن منظومة هذه العلاقات الفطرية العميقة في كل نفس بشرية سليمة لا تختل إلا تحت ضربات مواعل الهدم المتنوع.

إن أخلاقنا في خطر، وثقافتنا مغشوشة ملوثة تحت ضغط العولمة الإعلامية والأفلام الوافدة، المدبلجة على وجه الخصوص، والأمر جلل يحتاج إلى وقفة تأمل ومحاسبة جادة، على كل الصعد، تلمسا لطريق علاج ناجع، قبل استفحال الخطر، وسقوط بنياننا الأخلاقي المتصدع المتداعي.

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016