مقال جديد

الجمعة 10 آب (أغسطس) 2012  05:08

كان بإمكان لقاء الجنرال عزيز بالصحافة الوطنية في أطار أن يسمح له بالاستدلال على مهارته وأهميته وإتقانه للمواضيع التي تثير الاهتمام الوطني والدولي، كما أنه كان من الممكن أن يزيد من ثقة الموريتانيين فيه، وبالتالي زيادة شعبيته، أو على الأقل الحفاظ عليها. كل ذلك لم يقع. فالرأي العام الوطني، اليوم بعد اللقاء، أكثر إدراكا، من أي وقت مضى، بحقيقة الرجل ودوافعه الحقيقية التي لا تبشر بأي خير، باستثناء الديماغوجية الشعبوية. وهل في الأمر أي غموض؟

كلا. إن الجنرال عبارة عن كتاب مفتوح، من كتب أدب محطة القطار، سهل القراءة، وخال من أي تردد أو غموض ممكنين. والصحفيون الفرنسيون الذين تحتم عليهم إجراء مقابلة معه في شهر إبريل الماضي في القصر الرئاسي، يعرفون شيئا من ذلك. لقد كان من الممكن أن ينهي كل حياته المهنية العسكرية بسيطا وغير معروف، لولا أن العقيد اعل ولد محمد فال قام بـ "زرعه" في حديقة ولد الطايع. ولأن ولد محمد فال لم يكن "عالم نبات"، فإنه كان يجهل أن بعض "النباتات الفطرية" سامة، وبالتالي، يجب عدم استغراب العواقب الوخيمة التي ستنجر عن ذلك.

وتكمن مأساة المآسي في أن موريتانيا أصبحت اليوم محمية الجنرال عزيز، بالمفهوم الإقطاعي للكلمة والعائد إلى القرون الوسطى؛ أي ملكه الخاص. فثرواتها ملك له، والدولة عبارة عن شخصه، والباقي لا أهمية له. فالويل لنا! نحن من أراد ذلك عندما فرضنا لقيادة الأمة عسكريا جشعا مناورا وغير بارع. إن الجيش الذي جاء منه الرجل لا يُعَلم سوى العقيدة العسكرية وفنون الحرب، لا "فن الممكن". ولذلك فإن جنودنا الشجعان الذين لم يكونوا مهيئين للسياسة في المرحلة الثانوية، لن يكونوا قادرين على ممارستها عندما تتلقفهم هذه الهيئة الصامتة وغير السياسية. وهو ما يفسر اللا مبالاة التي تميز تسيير الشؤون الوطنية، اليوم، والشعبوية المشوهة إلى مؤسسة تعمية باعتبار أن ذلك يشكل نمطا من أنماط الحكم.

لذلك لم يقم النظام بشيء لمواجهة الأمطار الغزيرة من المشاكل التي تعصف بالبلاد منذئذ، سوى فرض خطاب يحيل إلى حقبة رأيناها سابقا. فعندما ساق نظام ولد الطايع البلاد إلى الهاوية، ومن أجل إيجاد حل وسط يضمن استمراريته، لجأ إلى سحر الناس: أعلن عن وجود مقدرات كبيرة من النفط في موريتانيا ستفتح أبواب الازدهار في البلاد، ونشر مؤشرات نمو تدعمه. لقد أعادنا التقرير الإحصائي الذي تقدم به ولد عبد العزيز في هذه الأمسية السياسية-الإعلامية إلى مرحلة كنا نظن أننا تجاوزناها إلى غير رجعة. وجاء خطابه منحوتا من نفس الطينة: "أنا منتخب بطريقة ديمقراطية، أنا أحارب الفساد، أنا أطور البنية التحتية لبلادي، وأنا أول من قام بالثورة".

قبل كل شيء، فإن حسم الموقف في الشوط الأول من انتخابات ديمقراطية، مفتوحة وشفافة، هو شيء يتجاوز الواقعية. ففي رئاسيات فرنسا لسنة 1965، تم جر الجنرال ديغول، محرر فرنسا، وهو شخصية غير عادية، من قبل فرانسوا ميتران إلى التنازل. فلا يكفي أن تتيح آلة الهندسة التزويرية غير المعروفة انتخابَ الجنرال (ولد عبد العزيز) بنسبة 52%، للقول إن الانتخابات كانت مطابقة للواقع.

وعلى سبيل المقارنة فإن جميع المفسدين، بمن فيهم عزيز نفسه، ينفون عن أنفسهم أي ثراء غير مشروع ! من المؤكد أن إدانتهم لم تُثَبت في الواقع، ومع ذلك كيف يمكن لموظف يتقاضى راتبا زهيدا في بلد فقير مثل بلادنا أن يكون ثريا بشكل معتبر؟ هنالك بالضرورة مُعْطى غير صحيح.

وبخصوص التنظيف المزعوم لتسيير الشأن العام، فصحيح أن مجال اختلاس المال العام؛ أي مجال توزيعه، أصبح محدودا، بيد أن حجمه ازداد بشكل ملحوظ: فالميزانية العامة التي كانت في متناول جميع الموظفين، لم يعد من الممكن الوصول إليها لأسباب مرتبطة بالاختلاس. وهذا الغلاف المالي المحفوظ بعيدا عن المتناول يتم توجيه جزء منه إلى إنجازات ماثلة (وخصوصا الطرق) كدليل على حسن التسيير، بينما يسلك الباقي مسارات متعرجة لصالح الجنرال لوحده وأقربائه وأصدقائه.

وإلى العائدات الضريبية أضيفت المصادر الطبيعية التي يغيب تسييرها عن الشعب وبرلمانه. وترجع الكلمة الأخيرة في عقود تقاسم الإنتاج في هذا المجال إلى الحكومة، وبالتالي إلى الجنرال عزيز. وهنا أيضا فإن حجم النهب مذهل. على سبيل المثال: يذهب الإنتاج البحري إلى الصينيين، يذهب الذهب إلى الكنديين، الحديد إلى الهنود، (وكل ذلك) عبر لجان يتم الدفع لها باعتبارها وسطاء لـ "رئيس الفقراء".

وفي ركن الإنجازات لم يبرز شيء على الأرض، باستثناء المشروع المتواضع جدا لبناء مطار نواكشوط في عملية مقايضة غير تقليدية. ربما يوجد هنا أو هناك قار (أو قطران لتعبيد الطرق) أو مرافق صحية، بالإضافة إلى إعادة التأهيل الفضولية لمقر إقامة رئيس الوزراء. ففي البداية أنفقت الدولة على بنائه 1 مليار أوقية. وبجرة "عبقرية"، قرر عزيز تحويله إلى مركز استشفاء للأم والطفل. تكلفة العملية: 600 مليون أوقية! لقد كان من الممكن بناء مركز استشفائي بهذه الميزانية مع إبقاء القصر على حاله، وعلى مهمته الأصلية.

أخيرا، وفيما يتعلق بتسريع الثورة، وهو اختراع بعيد المأخذ، تجدر الإشارة إلى أن الضباط في عالمنا العربي دأبوا، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، على القيام بالانقلابات وتسميتها بالثورات. فوجود ثوار بالبزة النظامية هو بهلوانية مصطلحاتية بعثية-ناصرية مربكة. إننا لا يمكن أن نتحدث عن الثورة إلا إذا انتفض الشعب وتسبب في إحداث تغيير جذري ’تغيير كاسح‘: أي قطيعة تامة مع فلسفةِ وممارساتِ وسياسيي النظام السابق. وما حدث لدينا سنة 2005 هو انقلاب عسكري كان الجنرال مجرد واحد من فاعليه الرئيسيين.

وللمفارقة، فإن احتواء التغيير كان من أبرز أسباب ثورة القصر تلك. وفي هذا الصدد، يصعب تحميل مسؤولية هدم الصرح الوطني كاملة وحصريا للرئيس السابق ولد الطايع وحده، فالمسؤولية عن كل ذلك تقع على ذلك العالَم الذي كان حاكما حينها، والذي يكاد يكون اليوم ملتفا بأسره حول "الثوري" الذي يحكمنا. ومن كان تخلف منهم عن الركب هو اليوم في الطريق إليه، مع أفواج حزب الوئام. ومن سخرية القدر أن لا يجد من أطاح بولد الطايع سوى رجال ولد الطايع لتعزيز نظامه. فمنذ وقت ليس ببعيد تم سحق كافة "الثوريين" العرب شكلا، على يد الثورات، الحقيقية هذه المرة.

اعل ولد اصنيبه

ترجمة: المشري ولد الرباني "نور انفو"

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016