الصفحة الأساسية > آراء حرة > إعدام رئيس/ أبو العباس أبرهام

إعدام رئيس/ أبو العباس أبرهام

الأحد 3 حزيران (يونيو) 2012  10:29

ليس صدفة أن محاكمة مبارك هي محاكمة أسرة مبارك. في تونس أيضا حوكم غيابيا آل بن علي. منذ أن بدأت الثورة العربية في يناير الماضي و صراع الشعب هو ضد الأسر الحاكمة و العشائر الحاكمة. في سوريا و اليمن و ليبيا أيضا لم يختلف الوضع. أسر و عشائر حاكمة في مواجهة الشعب.

في مواجهة هذه الأسرية (سنسميها السلالية) يقف جمهور متحد، و لكنه منقسم أيضا قسمين: أصوليين و علمانيين. ولقد أصبح هذا الانقسام يتصدر عناوين الأخبار اليوم في الدولتين الوحيدتين الذين تم فيهما إلى حد الآن إنهاء نفوذ الأسر الحاكمة بالثورة: تونس ومصر. يجب أن لا نغفل هذه الرمزية. في مواجهة أنظمة الحكم السلالية العربية الحديثة يقف خياران: الدين السياسي و العلمانية الديمقراطية.

لست السلالية العربية الحديثة حالة علمانية، بالمعنى التقدمي للمفهوم، ففيها لم تنتفِ علائق ما قبل السياسة Prepolitical من المجال العام فظلت علاقات الدم و العشيرة و العلاقات التحالفية هي شرعية الدولة. لقد هزم المشروع العلماني الذي حاولت قوميات منتصف القرن العشرين إرساءه. أيضا ليست السلالية العربية الحديثة حالة دينية-سياسية (تيولوجية)، فرغم مأسستها للدين و استخدامه لتبرير شرعيتها إلا أن الحاكم فيها لم يعد ظل الله في الأرض و لم يعد ولي الأمر، الذي تنبع طاعته من طاعة الله.

الحقيقة أن السلالية العربية الحديثة تتوسط النموذجين، إذ هي نموذج في حالة الانتقال من الثانية إلى الأولى. أما الشيئ الثاني فهو أن الحالة السلالية لم تكن حكما متعاليا بل كانت تستمد شرعيتها من مطالب جماهيرية واسعة وإن لم تكن عامة أو ديمقراطية.

يبين أحد أهم باحثي العلمانية في عصرنا، مارسيل غوشيه، أن شرعية الحكام تأتي من خلال ما يسميه بمديونية المعنى، حيث يتم إصباغ شرعية نظام الحكم ليس بسلطته و قوته و إنما من خلال رغبات داخلية في الجمهور الذي يقوم بتقديم طاعته للزعيم متوقعا منه أن إشباع رغبته في التوصل إلى معان سامية محددة. في مرحلة ما قبل السياسة كان هذا الإشباع يأتي من توقع الشعب سلطة عشائرية تعبيرا عن سلطته أو تقبلا لخضوعه لشعب قاهر، ثم يبدو أن مديونية المعنى تغيرت في العصر الديني الكبير إلى توقعات دينية من الجمهور أن يحكمه ممثل لله أو خليفة له. اليوم في النظام الديمقراطي الحداثي تأتي مديونية المعنى من خلال التفويض الذي يقدمه الشعب للنظام من خلال إرادة عامة معبر عنها انتخابيا.

من الواضح أن العلمنة أو الإنتقال من مديونية المعنى الديني إلى مديونية المعنى الشعبي لم تتحقق غالبا في أنظمة القرن العشرين العربية، لسبب بسيط هو ثقل العوائق التاريخية لمديونية المعنى العشائري و الديني، و الذي كان يتمظهر غالبا في مديونيات و توقعات بالقادة الأبطال و الرموز، فسرعان ما عاد الحاكم العربي ليملأ توقعات معينة بأن يكون حاكما مطلقا. وفي البداية كانت هذه التوقعات التي تضفي الشرعية هي التوقعات بحاكم رمز يبني الأمة و يمثل توحدها و لكن هذا سرعان ما تحول إلى إشباع توقعات محافظة بأن يكون الحاكم مطلقا، شهوانيا، قمعيا. و لقد تسارعت هذه الوتيرة مع سياسات الإنفتاح و سقوط التبريرات الإشتراكية للأنظمة.

و هكذا تحول الحاكم إلى سلطان أو خليفة علماني. وليس العالم العربي و الإسلامي وحده هو العالم الذي استقيظت فيه وشائج الماضي المدعمة بمديونية المعنى لإعادة الحاكم القديم، ففي روسيا أثقل كاهل مئات السنين من حكم القياصرة على التجربة الشيوعية بحيث أن ستالين و لاحقيه، خصوصا بوتين الآن، أصبح يجسد ديكتاتورية القياصرة في أوضح صورها.

2

كانت ثورتنا العربية لحظة أنتيجونية. كما هو معروف فإن أنتيجون هي المسرحية التي كتبها سوفوكل و تتحدث عن الفعل الجريئ للفتاة أنتيجون، ابنة أوديبوس و جوكاستا من سفاح القربى الشهير. و يتلخص هذا الفعل في تحدي أوامر عمها الملك كريون الذي تمرد عليه أخاها بولينيكس و قتله العم ثم أمر بترك جثته في العراء لتأكلها الوحوش و أرسل أمرا بتحريم دفنه. و تنجح أنتيجون في الوفاء لعلاقاتها الأخوية و العشائرية بتجييش أسرتها و التسللل، بعد فشل التجييش، إلى جثة الأخ و دفنها دفنا مقدسا مرتين.

و باللحظة الأنتيجونية أقصد الانتقال من العصبية إلى السياسة: الانتقال من العشائرية إلى الدولة. و في عصرنا يحدث هذا من خلال الانتقال الديمقراطي. إن اللحظة الانتيجونية هي موضع خلاف فلسفي كبير من هيغل إلى لاكان إلى لوس إريغاري و مؤخرا جوديث بتلر. و بينما نظرت لوس إريغاري إلى أنتيجون باعتبارها ذروة خلاف المرأة، ومحاربتها، للدولة الذكورية، و بالتالي أساس النسوية الحديثة، فإن لاكان تجاهل البعد العئاشري في القصة و اعتبر أنها تجربة الانتقال من المخيال إلى الرمزي. و بدون أن أرمي بهذه التأويلات، التي أتشبث بها خارج هذا النص فإنني هنا أتشبث بموقف هيغل و هو يرى في أنتيجون ممثلا للسياسة العشائرية في مقابل "مولد السياسة" و مولد الدولة، التي يمثلها كريون، على أنقاض العشائرية.

إن هذه اللحظة الأنتيجونية هي اللحظة العربية الحالية: تجربة الإنتقال من الدولة السلالية المبنية على حكم العشائر إلى دولة الدمقراطية و التعددية: إلى دولة السياسة. و كما يبين هيغل في فينومنولوجية الروح فإن هذا الانتقال من العشائرية إلى السياسة هو انتقال علماني فأنتيجون تمثل قانون آلهة المنازل أما كريون فيمثل قانون الدولة. و قد حاججت أنتيجون كريون الذي سألها عن سبب تحديها لقانون الدولة فقالت أن قانون الله فوق قانون الدولة. و لكن المسرخية تنتهي بقتل ممثلة النظام العشائري اللاهوتي و استمرار نظام الدولة و القانون المعقلن.

3

كيف يحدث الانتقال من القانون اللاهوتي إلى القانون المدني الحديث؟ هل يحدث الأمر بإراقة الدم أم أن مجرد انتقال قانوني سلمي يمكن أن يحدث؟ إن هذه هي أسئلة الثورة الفرنسية. و روبسبيير، الذي كان يرفض أصلا مبدأ إعدام الملك، باعتباره ممثلا للنظام القديم، العشائري اللاهوتي، اكتشف فجأة أن الثورة هي خيار بين وجود ووجود: إما أن يتم إعدام الملك و إما أن يتم القول بعدم شرعية الثورة. و هكذا أذعن "الرجل الذي لا يمكن إفساده" لمبدأ قطع رأس الملك. إن قصل رأس لويس السادس عشر هو بداية الحداثة و بداية شرعية الدولة الحديثة.

إن معادلة روبسبيير الرهيبة هذه لم تتوقف فقط على روبسبيير، التي بموجبها فقد التحالف الثوري خلفه من السراويل القصيرة و اليعقوبيين و بقي وحيدا أمام يمين الثورة الذي قطع رأسه، بل أيضا أصبح هذا الخيار المتاح حتى لم كانوا معتدلين في أيام الثورة الأولى. إن غراشوس بابيف هو أبو الشيوعية الحديثة. وقد ولد من تقاليد الثورة الفرنسية. و في البداية اعتقد بابيف- الذي سمى نفسه غراشوس على الاخوة غراشوس الذين كانوا أول من قام بقوانين إعادة توزيع الأراضي في النظام الروماني العتيق، مشكلين نموذجا شيوعيا- أنه يمكن الإصلاح بمجرد قوانين التوزيع العقاري و مراقبة الأسعار. و لكنه اكتشف أن المشكلة تتعلق بما سيسميه ماركس بالاقتصاد السياسي. إن الأمر يحتاج إلى ثورة لإعادة التركيبة السلطوية الحاكمة. و هكذا أسس "نخبة العادلين" و سعى للعب خيار روبسبيير و كريون: إما الثورة و إما الرئيس. و صحيح أن غراشوس قُتل هو وثواره و لكن تقاليده طبعت القرن العشرين. من نيقولاي الثاني إلى هيلا سيلاسي تم التخيير بين الثورة أو رأس الملك، بين الثورة و بين النظام القديم.

إن الثورة المصرية في منتصف الخمسينيات تنتمي إلى هذه التقاليد، و لكن تاريخ البلاد الطويل في السلام جعلها تضع الخيار الروبسبييري بين الثورة و طرد الملك و نزع الجنسية منه: قتله رمزيا. و لكن الثورة المصرية 2011 لم تقتل مبارك حتى رمزيا: إنها لم تدنه إلا على قتل المتظاهرين و ليس على الفساد. أي أنها برأته من الأفعال التي سببت الثورة عليه و حكمت عليه بردود أفعاله على ثورة لم تكن مبررة، حسب هذا الافتراض. إن هنالك تصحيحا لهذا الانقلاب: التصحيح الثوري المباشر بمقصلة ميدان التحرير أو طوفان اقتراعي في يوم الانتخابات. هكذا يتم قطع رأس النظام القديم.

4

إن نفس هذا الخيار مطروح في ليبيا: لا يمكن للجلادين في نظام القذافي، الذي حكموا بالإعدام ووقعوا بأيديهم على الاعدامات الصورية على الخصماء السياسيين للقذافي أن يقودوا مرحلة انتقالية من حكمه. و نفس الشيئ في موريتانيا: لا يمكن لجنرال انقلب على الديمقراطية قيادة الديمقراطية.

اضف تعقيبا

الأخبار قضايا تحاليل تقارير آراء حرة اصدارات مقابلات أعلام هواتف تهمك منبر كيفة أخبار الجاليات الظوال أسعار الحيوان صور من لعصابه قسم شؤون الموقع والوكالة تراث دروس كاريكاتير نساء لعصابه قناة كيفة انفو سوق كيفة
صفحة نموذجية | | خريطة الموقع | متابعة نشاط الموقع RSS 2.0
جميع الحقوق محفوظة لـ " وكالة كيفة للأنباء" - يحظر نشر أو توزيع أو طبع أي مادة دون إذن مسبق من الوكالة ©2014-2016